أشرت في مقالي الأسبوع الماضي إلى أن ثورتي مصر وتونس برهنتا أن القضية الأساسية التي تهم مواطني الدولتين ليست دينية. إذ لم تتضمن شعارات المتظاهرين ما يدل على ذلك. كما صرح زعماء "الإخوان المسلمين" وحركة النهضة التونسية أن المنظمتين لا تمثلان، في أي من البلدين، إلا شريحة من شرائح المجتمع، وليس لهما أهداف خاصة تختلف عن أهداف المتظاهرين المطالبين بالكرامة والديموقراطية وكف أيدي الفاسدين، ولا تطمعان في التنافس على الرئاسة في أي من البلدين. وأكثر من ذلك دلالة تصريح أولئك الزعماء بالبراءة، تحديدا، من المطالبة بـ"تحكيم الشريعة" الذي كان مطلبا رئيسا للمنظمتين، وبيانهم أن هذا المطلب متروك للمواطنين المصريين والتونسيين ليقرروه بشكل ديموقراطي في المستقبل.

ويمثل هذا نهاية للأدلجة الدينية التي شغلت هاتان الحركتان المسلمين بها زمنا طويلا. وهناك أدلة واضحة على أن نهاية هذه الأدلجة الدينية ليست مقصورة على هذين البلدين. وهذا ما تشهد به المظاهرات العارمة في بلدان عربية وإسلامية مجاورة أخرى. ومن ذلك ما حدث في العراق في الأسبوعين الماضيين.

ومن المعروف أن الدافع الرئيس للغزو الأميركي للعراق كان، كما يُزعم، إرساء نظام ديموقراطي بديلا عن الحكم الفردي الذي حكم العراق لأربعة عقود، لكن هذا التغيير لم يؤد إلا إلى استيلاء الزعماء الدينيين السنة والشيعة والأحزاب الدينية التي تخضع خضوعا تاما للمرجعيات الدينية لمختلف الطوائف على زمام الأمور.

وقد استغل أولئك الزعماء العواطفَ الدينية للمواطنين العراقيين الشيعة خاصة فشجعوهم على الانغماس في الممارسات الدينية التي يشارك فيها أحيانا ملايين الناس من البسطاء، وتؤدي إلى تعطيل الحياة العادية لأيام في بعض الأحيان، وتبعث الأحقاد التي تشعل نار الفتنة بين المسلمين. وكان الهدف الواضح من هذا التشجيع ضمان ولاء أولئك البسطاء المؤمنين بفطرتهم من أجل دعم تلك الأحزاب بالتصويت لها في الدورات الانتخابية المتعاقبة.

ولم يفعل هذا الاستحواذ شيئا لتحسين أوضاع المواطنين المعيشية. وكانت الحكومات المتعاقبة تعلل تقصيرها بالانشغال في مكافحة الأعداء الحقيقيين والمتخيلين.

وكان الإنجاز الذي يكاد يكون وحيدا لتلك الديموقرطية الهجينة التي تستظل بحماية القوات الأجنبية ويتحصن القائمون عليها في المنطقة الخضراء المنيعة هو تمتع الناس بالحرية المطلقة لممارسة الشعائر الدينية والإيحاء بأنها مطلبهم الوحيد. وأصبح الوضع في العراق لا يختلف عن الوضع في الجمهوريات العربية الأخرى من حيث التشبث بالسلطة وتزوير الانتخابات والتهرب من المسؤولية باتهام الخارج.

لكن العراقيين الذين حشرتهم الأحزاب الطائفية طوال السنوات الثماني الماضية في خنادق الأدلجة المذهبية تنبهوا، مثل الشعوب العربية الأخرى، إلى أن قضاياهم الملحة ليست دينية، لذلك عمت المظاهرات مدن العراق مطالبة الحكومة بالوفاء بما تعهدت به من تحسين واقع المواطنين "الخدمي والمعيشي وتحقيق بعض أهدافهم التي تعذر على الحكومة تحقيقها خلال الفترة الماضية" (الشرق الأوسط، 25/2/2011م).

واللافت أن كثيرا من المرجعيات الدينية وقفت ضد المظاهرات وخوفت المواطنين العراقيين من أن تتخذ ذريعة لتنفيذ "أجندات خفية". فقد عبَّر المرجع الشيعي علي السيستاني عن "قلقه حيال ما يمكن أن تؤدي هذه المظاهرات إليه من إزهاق للأرواح أو نهب للمتلكات العامة". و"أصدر رؤساء دواوين الوقف الشيعي والسني والمسيحي بيانا دعوا فيه المشاركين في (مظاهرات الجمعة) بمنح الحكومة العراقية مهلة كافية لتلمس أثر المصادقة على الميزانية العامة ثم الحكم عليها" (الشرق الأوسط، 25/2/2011م). و"حظي رئيس الوزراء نوري المالكي بدعم بعض مراجع النجف وزعيم التيار الصدري الذي دعا إلى منح الحكومة فترة ستة أشهر قبل التظاهر ضدها" (الشرق الأوسط، 26/2/2011م).

ويشهد هذا التضامن بين المرجعيات الدينية وحكومة المالكي، الذي رفض الخضوع لنتائج الانتخابات الأخيرة وعطل العملية السياسية لشهور عدة، على شعور هذه القوى المتحكمة بأن الشعب العراقي بدأ يتحرر من هيمنة المرجعيات الدينية والأحزاب السياسية المؤتمرة بأمرها، وبدأ يكتشف قضاياه الأساسية الحقيقية.

ويلفت النظر التشابهُ بين خطاب القذافي الذي لا يرى مانعا من أن يتظاهر الليبيون بشأن القضايا الخارجية لكنهم يجب أن يمتنعوا عن التظاهر بشأن القضايا الداخلية وخطابِ المالكي الذي دعا العراقيين إلى عدم المشاركة في المظاهرات، لأنه يمكن "إخراج هذه المظاهرات في أي زمان ومكان تريدون خارج مكان وزمان مظاهرة خلفها الصداميون والإرهابيون والقاعدة" (الشرق الأوسط، 25/2/2011م)!

وتشهد هذه التحركات الشعبية في العراق بتشابه المطالب الشعبية في البلدان العربية، وتشهد بوعي جديد مؤداه نهاية التسلط السياسي للأنظمة القمعية العربية، والخلاص من هيمنة الأدلجة الدينية بغض النظر عن كنهها. كما تشهد بتشابه تلك الأنظمة على الرغم من الاختلافات السطحية بينها.

ومن الأمثلة الأخرى على نهاية الأدلجة الدينية المظاهرات في لبنان الذي عطلت فيه الطائفيةُ السياسية الحياةَ السياسية طوال سبعة عقود على الرغم من المظهر الخادع للديموقراطية المتمثل في الانتخابات الدورية والعلمانية السياسية والفصل بين السلطات. أما الواقع فهو أن تلك الديموقراطية الشكلية لا تعدو أن تكون تقاسما للسلطة بين رؤساء الطوائف المختلفة الذين لا يمنعهم شيء عن ارتكاب المذابح الفظيعة ضد الطوائف الأخرى دوريا، والاستمرار في الحروب الأهلية لسنوات طويلة.

لذلك يعني خروج المتظاهرين اللبنانيين من مختلف الطوائف والأديان والأحزاب الخاضعة لها الخروجَ عن وصاية تلك الزعامات الطائفية وإيديولوجياتها التي أسست للتخاوف المتبادل بين أتباع المذاهب والأديان في لبنان من أجل ضمان ولاء المواطنين لها بوصفها الحامي لهم.

وتماثل إيرانُ الأنظمةَ العربية الجمهورية في مساوئها كلها، ذلك أن البنية الديموقراطية الظاهرية للنظام تخفي وراءها تسلطا لرجال الدين على المواطنين الإيرانيين وديكتاتورية فظة تتغول على حرياتهم. ومن أوجه الشبه الواضحة أن الطبقة السياسية النافذة في إيران ظلت كما هي طوال أكثر من ثلاثين سنة، وظلت مجموعة صغيرة من المنتمين إليها تتداول السلطة وتمنع، بقوة القوانين التي اشترعتها، الذين لا يتجانسون مع الإيديولوجيا الدينية النافذة أو لا يوالونها من الترشح لأي منصب. وأوضح شبه بين الجمهوريات العربية وإيران بقاء المرشد الأعلى للجمهورية في منصبه حتى وفاته. ويتمتع المرشد بصلاحيات مطلقة تمكنه من تعطيل القوانين التي تصدرها الجهات التشريعية، بل إن له الحق في تعطيل بعض الواجبات الدينية إذا رأى مسوغا لذلك.

ويستخدم النظام الإيراني، مثله مثل الأنظمة العربية القمعية، القوة المفرطة ضد خصومه السياسيين والمعارضين، ويتهمهم بخيانة الوطن والعمالة للخارج. وقد عبرت شريحة واسعة من المواطنين الإيرانيين في السنتين الأخيرتين، ولا تزال، عن رفضها لهيمنة الأدلجة الدينية والقائمين عليها، وعن رغبتها في الحياة الكريمة المؤسسة على الحرية الفردية والمعايير الإنسانية المعاصرة.

وختاما فإن سقوط الإيديولوجيات الدينية يبشر بمستقبل واعد يهتم فيه المواطنون العرب والمسلمون بقضاياهم الحقيقية التي صرفتهم عنها تلك الإيديولوجيات عقودا مديدة.