للتو أنهى المؤسس العظيم توحيد المملكة العربية السعودية، ثم انتقل إلى رحمة الله قبل ما يقل عن الستين عاماً.
الذي أنجزه هذا العبقري الذي لا يتكرر هو بنظري الثورة الحقيقية التي نقلت شبه الجزيرة العربية إلى كيان موحد في مساحة قارة بعد أن كان شتاتاً متبعثراً لا قيمة له اقتصادياً أو سياسياً.
ثورة الملك عبدالعزيز لم يجف حبرها بعد وأنا أتحدث عن تاريخ بناء الأمم الذي يستغرق مئات السنين. ما زلنا وفي كل فترة مناسبة نحدث تغييراً معيناً هنا أو هناك في محاولة لمواكبة الزمان والمكان. هذا ليس تجاهلاً للنقص الذي نشاهده اليوم في الأداء ولا هو تغاض عن انتشار البيروقراطية الحكومية والمحسوبية التي سأتناولها لاحقاً، غير أننا نتحدث عن فترة من الزمن هي قصيرة جداً في بناء الدول والكيانات. في الواقع نحن نتحدث عن أقل من أربعين عاماً وهي الفترة الزمنية "المادية" المهمة في تاريخ المملكة ومما لا بد منه في أي كيان جديد يبني نفسه بنفسه دون أي تدخل من مستعمر خبير أن ترتكب الأخطاء ويعتري العمل بعض النقص وتظهر في أماكن محددة بعض النتوءات. هو عيب بكل تأكيد لكنه ليس مستغرباً على من يعمل ولولا العمل ولولا المبادرات لما حدثت الأخطاء أصلاً.
الغريب هنا أننا بدأنا نسمع عن موجات التقليد الأعمى في موضوع التظاهر ضد الحكومة في أعقاب ما جرى في تونس ومصر وما يحدث في اليمن وغيرها وكأن مفهوم الثورة أو التمرد والعصيان كما أسميه ليس إلا حفلة صاخبة في المساء يتبعها بعض العناء في صبيحة اليوم التالي لبرهة وجيزة ثم تنتهي الأمور.
الحقيقة أن التمرد والعصيان أخطر بكثير من ذلك. صحيح أن من تظاهروا هناك يستحقون التغيير إلى الأفضل مهما كان الثمن بعد أن مرت العقود عليهم وهم يعيشون في جمود شبه تام من حيث التنمية البشرية والاقتصادية إضافة إلى ممارسة تلك الحكومات للقسوة في كثير من الأحيان ضد المعارضين. أما في كيان كالمملكة العربية السعودية فإن المراقب يجد شيئاً مفقوداً عند الحديث عن الدعوة لمثل هذا العصيان. فلا النظام الحاكم مستبد ولا هو ممن يمارس سياسات التنكيل والاغتيالات السياسية والتعذيب في غرف سرية. المملكة لا تملك سيرة ذاتية تحتوي على مثل هذه الممارسات الوحشية التي اشتهرت بها بعض الحكومات سواء في المحيط العربي أو حول العالم. كما أنه لا توجد في المملكة مواضيع تتصل بالتخوين والعمالة للأجنبي على حساب المصالح الوطنية. بلادنا بلاد خير وبركة على الكثيرين. يكفي أنها هي السباقة دائماً إلى مد يد العون للمنكوبين خارج أراضيها حتى امتد هذا العون إلى الدول البعيدة جداً انطلاقاً من تبني مفهوم الإنسانية والتكافل. هذه ممارسات عالية الجودة في سير الدول وسلوكياتها. المملكة تستشعر هذه المسؤولية الأخلاقية التي لا تبادر إليها ولا تتحمل تبعاتها إلا الدول العظمى والكيانات الكبرى. نحن نمارس ذلك لأننا في المملكة نستشعر بالفعل أننا كيان عظيم ومسؤول.
أقول هذا الكلام مع التأكيد الذي لا يقبل التردد كما أشرت في مقدمة المقال بأننا وفي هذا البناء الغالي العزيز لا ننزه أنفسنا عن الأخطاء. بل إننا في الواقع بحاجة إلى ثورة لكنها ثورة مختلفة.. ثورة جميلة.. "شكلها غير" لا تهدم بل تبني. كما أنها ثورة يشترك بها الشعب يداً بيد مع الحكومة لمحاربة الروتين السيء والفساد والترهل. نحتاج أيضاً إلى ثورة في القيم وإعادة صياغة مفاهيمها والتعرف على مكامنها. نحتاج إلى ثورة لتأصيل ثقافة العمل وبناء الوطن بسواعد الأبناء والبنات. ها هي المملكة تحتضن أكثر من ثمانية ملايين من الأجانب من كل مكان أتوا هنا لكسب الرزق الحلال من خلال وظيفة فكيف يمكننا بواقعية أن نتحدث عن بطالة سعودية لا يمكن أن يتجاوز عددها نصف مليون فقط ما بين رجل وامرأة؟ هل تساءلنا يوما كم من متر مربع في طريق رئيسي تم تعبيده بأيد سعودية؟ كم من حائط منزل أو بناية تجارية أو قطعة من رخام تم تثبيتها بواسطة سواعد أبناء الوطن؟ الحقيقة أن ثورتنا في المملكة يجب أن تنصب حول هذه المفاهيم وتتجه نحو الإنتاج السعودي. إن نجحنا في هذه الثورة فسيجد كل العاطلين والعاطلات فرص عمل مناسبة لهم داخل هذا البناء الاقتصادي الضخم.
من الناحية الأخرى نحتاج إلى ثورة لزرع مفاهيم المواطنة ونبذ التناحر الذي عصف بنا في العقدين الأخيرين حتى أصبحت التصنيفات المطرزة بالألقاب الرنانة هي السائدة في مجتمع للتو بدأ يبني نفسه. الذي يفترض هو أن نكون كلنا سعوديين وحكومتنا في الحقيقة هي حكومة لكل السعوديين وملكها هو ملك لكل السعوديين. زرع مثل هذه التصنيفات وتغذيتها في الخطاب المحلي بدلاً من مواجهتها والتصدي لها حتماً سيصيب ولو بعد حين هذه الوحدة بشيء من التصدع الذي لا يتمناه إلا الأعداء. من منا والحديث عن الأعداء، يستطيع إنكار وجود هؤلاء في كل ما يحدث حولنا من بلبلة. دول الخليج بشكل عام تعتبر محسودة من الكثيرين الذين فشلوا في إرساء دعائم الأمن والتنمية في مجتمعاتهم. هذه حقيقة نعرفها منذ عشرات السنين والحقد لديهم مع الأسف لا ينكمش بل يزيد بطريقة التناسب الطردي مع حجم الإفلاس الذي يلفهم. هاهم يتغلغلون اليوم في صفحات الفيسبوك والمنتديات الحوارية وغرف الدردشة إضافة بالطبع إلى حماس بعض الفضائيات التي تختار ضيوفها بعناية فائقة لإيصال الرسائل المحددة والمطلوبة بدقة. لكننا في جميع الأحوال لا نلوم الأعداء الذين وجدوا مع الأسف من يساندهم من أبناء جلدتنا إما عن سذاجة أو خيانة.
الذي يجب التذكير به أيضاً وهو الأهم أن المملكة ومع كل التقصير الذي أشرت إليه، دولة لديها مكتسبات مادية هائلة لا يمكن المجازفة بها أمام أي إغراءات كالتي يرددها البعض في هذه الأيام. تكفي الإشارة إلى أن ما يحويه طريق رئيسي في مدينة الرياض على سبيل المثال، من مؤسسات مالية كبيرة قد يتساوى في حجم مدخراته وأصوله مع الناتج المحلي الإجمالي لدولة عربية كتونس مثلاً. كما أن اقتصاد منطقة سعودية واحدة في هذه المملكة الواعدة قد يعادل اقتصاد عشر دول عربية مجتمعة أو تزيد. نعم نتطلع إلى المزيد من الإصلاحات ونتأمل أن يكون ذلك بالسرعة الممكنة لأن ذلك يعد مصلحة وطنية ملحة لا تقبل التأجيل. لكننا حتماً لن نجازف بهدم مقدراتنا الكبيرة التي تعب المتميزون من آبائنا ومن بعدهم أولادهم وأحفادهم ببنائها وتأسيسها إلى أن أصبحت علامات بارزة في نهضتنا الفتية.