لو هُيِّئ للبروفيسور الهندي براهالاد تطبيق نظريته "الثروة في قاع الهرم" لمكافحة الفقر في السعودية لوجد بعض الصعوبة في تحديد ماهية الفقر السعودي في البداية. فالحقيقة أن براهالاد قد وضع الأسس الأولية لنظريته واضعاً في اعتباره الدول التي تعاني فقراً مدقعاً بمعدل صرف يومي أقل من دولارين للفرد الواحد، ولكنه رغم ذلك عرّف قاع الهرم بأنه الطبقة التي تعيش بدخل أقل من ثلاثة آلاف دولار في السنة، وبذلك اتسع حجم القاع ليشمل عدة طبقات من الفقراء، بعضهم لا يجد ما يأكل وبعضهم الآخر يأكل ويشرب.. ولكنه عاجز عن توفير حياة كريمة ومستقلة. وإذا تجاوزنا تطبيق مبدأ تكافؤ القدرة الشرائية (purchase power parity) الذي يستخدم نظرياً لتسهيل المقارنة بين اقتصاد وآخر، فإننا سنجد أن براهالاد يعرّف الفقير السعودي على أنه كل فرد يتقاضى دخلاً أقل من ألف ريـال في الشهر، وهو مبلغ قريب مما تدفعه وزارة الشؤون الاجتماعية لذوي الدخل المحدود. وبما أنه يندر في السعودية أن نجد فقراً مدقعاً تحت معدل الدولارين يومياً، فإن الفقر بذلك يكاد ينحصر في الفئة التي تتقاضى ما بين الخمسمئة إلى الألف ريـال شهرياً للفرد. وبطبيعة الحال نستثني من تلك الفئة النازحين من غير السعوديين الذين لا تصرف لهم معونات اجتماعية من الحكومية ولا يحقّ لهم العمل نظاماً، كما نستثني الأفراد الذين تحقق فقرهم نتيجة لإعاقة عقلية أو بدنية فادحة. هذه الفئة من السعوديين الفقراء تتشكل اجتماعياً إما على شكل أسر يتقاضى عائلها راتباً أكثر من ألف ريال، ولكن بقسمة الراتب على أفراد الأسرة ينخفض نصيب الفرد إلى أقل من ألف ريال، وبالتالي ينطبق تعريف الفقير على كل فرد منها، أو على شكل أفراد عاجزين عن الحصول على عمل، وبالتالي يظلون تحت رعاية عائلهم فيدفعون بالأسرة كلها إلى الفقر أو يعملون في أعمال متواضعة يتقاضون منها هذا الراتب الضئيل. وبدون إجراء أية إحصاءات يمكننا التنبؤ بأن الفئة الأولى هي الأوسع انتشاراً، والتي ربما تصح تسميتها بذوي الدخل المحدود، بينما ينحصر وجود الفئة الثانية في بعض المناطق النائية.

بعد تحديدنا لماهية الطبقة الفقيرة في السعودية بمعيار اقتصادي واضح، فإن السؤال التالي يكون: ما الذي تقوم الحكومة بفعله حالياً لمكافحة فقرهم؟ وما الذي يمكن لبراهالاد أن يقترحه لو أنه قرر تطبيق نظريته على السعودية؟ ولعل بقية هذه المقالة تجيب على السؤال الأول بينما تحاول المقالة القادمة التنبؤ بإجابة السؤال الثاني. إن مكافحة الفقر في السعودية تأخذ منذ تأسيس المملكة طابع الرعاية الاجتماعية (welfare)، وأبرز آلياتها المعروفة هي دعم السلع الأساسية (الوقود، الغذاء، الخ)، ومنح القروض دون فوائد (بنك التسليف، الصندوق العقاري،..الخ)، والمنح المقدمة لمحدودي الدخل (منح الأراضي، الضمان الاجتماعي، توزيع الزكاة، الخ). والحقيقة أن كل هذه الحزمة من الرعاية الاجتماعية كانت ناجحة إلى حد كبير في العقود الماضية عندما كان عدد السكان أقل. وقد تمكّن الكثير من الفقراء بفضلها من القفز إلى الطبقة المتوسطة بفضل سهولة الحصول على منحة أرض، ثم قرض طويل الأجل، ووظيفة مضمونة نسبياً، ثم تمتع بعد ذلك بتكلفة حياة منخفضة وخالية من الضرائب. كل هذه الظروف المعيشية والاقتصادية كانت سائدة في فترتي الستينات والسبعينات حتى الثمانينات الميلادية بوضوح. وقد أدى هذا الرخاء النسبيّ إلى انخفاض معدل الأمّية بسبب تمكّن الأسر، لاسيما أسر المناطق النائية، من إرسال أبنائها للمدارس بدلاً من استغلالهم للعمل، وانتعاش الاقتصاد المحلّي بسبب ارتفاع القدرة الاستهلاكية لدى الفرد، وكذلك - كما ذكرنا سابقاً - تقلّص الطبقة الفقيرة واتساع الطبقة المتوسطة، وقد صاحب ذلك كله قفزة تنموية كبرى للسعودية خلال السبعينات الميلادية من ناحية البنى التحتية والمؤسسات الحكومية. ولكن هذا (الرخاء) أدّى إلى (التراخي)، وهذه الظروف الجيدة تركت آثارها السلبية على اقتصاد الدولة ومجتمعها، ومن ذلك ارتفاع معدلات الإنجاب غير المدروس اقتصادياً على مستوى الأسرة، وتغيير سلوكيات العمل بسبب الأنفة من المهن الوضيعة، وتحوّل وسائل الرعاية الاجتماعية (welfare) إلى حلّ دائم، رغم أنه يفترض بأغلبها أن تكون حلولاً مؤقتة لحين تمكّن اقتصاد السوق من الحلول مكانه.

وإذا نظرنا إلى واقع الاقتصاد السعودي اليوم لوجدنا أن مشكلاته تتمحور حول هذه السلبيات تحديداً. فارتفاع عدد السكان بشكل غير مدروس اقتصادياً على مستوى الأسرة أدى إلى إرهاق كاهل عائلها، فمعدل الإنجاب في السعودية هو الأعلى بين كل الدول الغنية في العالم، ولا يتفوق على السعودية في معدلات الإنجاب سوى الدول الفقيرة جداً. كما أن مشكلة البطالة في السعودية نابعة في أصلها من كون السعوديين يأنفون من نصف الأعمال التي تقوم بها العمالة الوافدة، رغم أن أغلب هذه الوظائف يقوم بها مواطنو الدول الأغنى، ذات الاقتصادات الأقوى، بكل أريحية مثل أعمال البناء والمهن المتعلقة بها كالسباكة ذات العوائد المجزية، فراتب السبّاك المبتدئ في أميركا يتجاوز عشرة آلاف ريال شهرياً، أما السبّاك المحترف فيصل دخله إلى 18 ألف ريال شهرياً. والسباكة هي السباكة في السعودية أو أميركا، وعدد الوافدين الشرعيين وغير الشرعيين في أميركا أضعاف عددهم في السعودية. ولكن أزمة مجتمعنا تكمن في أنه حتى الأعمال المهنية (وليس الوضيعة) يأنف منها السعودي، بغضّ النظر عن مستوى دخلها، رغم أن أباه وجده اللذين يفخر بهما أقاما من دخلها أوده. السلبية الثالثة هي أن الرعاية الاجتماعية أصبحت جزءاً ثابتاً مما يتوقعه السعودي من حكومته. وهذه مشكلة يتحملها الطرفان: الحكومة التي لم تضع خطة اقتصادية محكمة للانتقال من (دولة رعاية) إلى (دولة اقتصاد مفتوح) باستثناء مشاريع الخصخصة المرتبكة، والمواطن السعودي الذي لا يريد أن (يعيش) مثل المواطن النيجيري الفقير، ولكنه أيضاً لا يريد أن (يعمل) مثل المواطن الألماني الغنيّ، وكل ما يرغب فيه هو راتب مجز وعمل مريح ومساءلة محدودة معتمداً بشكل مباشر على ارتفاع أسعار النفط. ومهما بدت هذه المطالب مبررة ووطنية في الوضع الحالي تبعاً لأسعار النفط، إلا أنها مدمرة ورجعية على المدى البعيد.