كثيرا ما يكون لدى المثقف ميلٌ نحو تيار فكري ما، جلبته ظروف الحياة والتنقل في مراحل المعرفة، ثم تبقى هذه المرحلة مسيطرة على طريقة التفكير لديه، وربما تصبح عقدة يستجلبها تفكيره أمام الكثير من النوازل والأحداث التي تستدعي نظرا متجردا، دون استصحاب الأحداث التاريخية أو المواقف السابقة، التي قد تكون مرتبطة ولكن يجب ألا تكون حاسمة للمواقف اليوم.

ذاك مثقف ينتمي لتيارٍ ديني؛ يبقى تحت تأثير أفكار ذلك التيار -شعر أم لم يشعر- حتى لو لم يكن ذلك عن قناعة داخلية، وآخر يميل إلى ما يسمى بالتيار الليبرالي. وكثيرا ما يبقى الاثنان أسيرين للأفكار التي نشآ عليها دونما إعادة النظر فيها بتجرّد، وإخضاعها إلى المعايير العلمية والعقلية، بغض النظر عمن يحمل تلك الأفكار. وتصبح تلك الأفكار كالمسلّمات غير قابلة للنقاش والنظر، بل ربما كان ولاؤه وبراؤه بناء على ذلك.

لا شك أن انسياق هذا الأمر يختلف من شخص لآخر من حيث مستوى التأثّر، إلا أن الكلام عام هنا.

كثيرا ما يكون هذا الميل عدوا للابتكار والإبداع، خاصة عندما تستدعي الوقائع والأحداث اجتهادا جديدا يكون متلائما مع تلك الوقائع والأحداث، ولذلك تجد أن أغلب المفكرين المبرّزين تضيق بهم وعليهم التيارات التي ربما كانوا ينتمون إليها؛ لأنه بالتأكيد لن يحصل على التصفيق عندما يأتي بفكرة جديدة نابعة عن قناعته الشخصية، وهي في الوقت ذاته قد تخالف قواعد ذلك التيار الذي ينتمي إليه!

ما أكثر التيارات على الساحة الثقافية في كل بلد، بيد أن المؤثر منها قلّة! ولربما لو أعاد أُولئك قراءة أفكارهم بتجرد لربما وجدوا أنها -أو بعضها- غير دقيقة، ولكن أحيانا تبقى الفكرة القديمة عقدة مسيطرة على الأذهان!

نرى مثلا أن نظرية الرأسمالية الغربية قائمة على حرية رأس المال، وتأسست الكثير من الأنظمة والتشريعات الغربية والدولية على هذا الأساس، بينما عَقِب الأزمة المالية الأخيرة وجدنا أن أصحاب النظرية نفسها بدؤوا بمراجعة هذه الفكرة وهم يعكفون الآن -إجمالا- على الأسلوب الأمثل الذي من خلاله سيحدُّون من حرية رأس المال، ويعيدون مراجعة الأنظمة المالية لديهم، نظرا لتوصّلهم لضرورة تعديل نظرية رأس المال الحر وأهمية المراقبة عليه ولو نسبيا؛ مما يتعارض مع الفكرة القديمة التي بُنيت عليها أساسات واقتصاديات ضخمة! هذه النتيجة لم يكونوا ليصلوا إليها إلا مع التجرد في البحث والمراجعة، بالإضافة إلى الحرية في طرح الأفكار والحلول. وهذا أمر صعب للغاية كما يدرك ذلك العارفون بأسس وقواعد حركات التغيير والإصلاح، خاصة إذا جاء من نفس التيار الذي كان يطرح العكس.

لننظر إلى أصحاب النظرية القومية كمثالٍ آخر من وطننا العربي؛ كانت بداية جذورها -كفكرة سياسية- من أوروبا كما يؤرخ لذلك العديد من المؤرخين، ولكن أثبتت هذه النظرية فشلها العميق وأنها غير صالحة للتطبيق وتتعارض مع الكثير من الحقوق والمبادئ من حق العدالة والمساواة وعدم التمييز وغير ذلك، وتبين ذلك لأصحاب الفكرة نفسها وتراجعوا عنها، وأصبحت مخالفة لحقوق مبدأ المساواة وعدم التمييز لديهم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تقريبا، حيث كان ظاهرا بما يكفي للعيان أنها من أهم العقائد السياسية التي أدت لاندلاع تلك الحرب، وهي أيضا السبب الأقوى في تداعي مكتسبات النازيين الألمان، حيث كانت الأعراق الأخرى تقاتل حتى الموت لأجل الدفاع عن حقوق الحرية والعدالة والمساواة؛ إلا أنها ما زالت رائجة إلى وقتنا هذا في الوطن العربي! وما زلنا نرى تبعات هذه الفكرة تتنقل من بلد لآخر إلى اليوم. لم يكن ليحصل ذلك لولا عقدة الانتماء للتيار والجمود على الفكرة القديمة.

هذا يذكرنا بمقولة، وهي أن التابع أو المقلِّد كثيرا ما يكون أكثر تشددا من المتبوع!

بالتأكيد؛ يجد المفكر نفسه مرغما أحيانا على التحفظ؛ مراعاةً للمصالح والظروف المحيطة، ولكن يجب ألا يكون عقله مُعاراً لدى الآخرين، ولربما كان سببا لإضعاف قدراته الذهنية تدريجيا.

وإذا رجعنا إلى أصل التفكير؛ وجدنا أن معيار النجاعة والقصور في الحلول ليس في مدى مطابقتها للحقيقة أو المثالية دائما بل أحيانا هو مدى فاعليتها وقابليتها للتطبيق، خاصة في الأفكار والتصورات التي يتعدى أثرها للآخرين، وليست مجرد تصورات قاصرة على أصحابها.

ختاما أقول؛ إن التجرد في التفكير يساعد كثيرا على الإبداع والوصول إلى الحلول العملية للمشكلات، ولا بد لكل مفكر أن يعيد دراسة أفكاره ومراجعتها، وأن يحاول الممازجة بينها وبين تطورات واستحقاقات الحاجة والواقع، كما أن الاستماع ومحاولة فهم الآخرين يساعدان المفكر على تطوير نفسه والاستفادة من غيره.