أساس الفقه سلطة نشأت وتحولت تاريخيا وتبلورت في شكل مدارس ومذاهب مختلفة، تلونت آراؤها بالثقافي المتحول واشتملت على الأصيل والطارئ، مرتبطة بخصوصية نظرة الفقهاء إلى الإسلام.. ومدى تقيد الفقهاء بمبادئ النص وتوجيهاته أو الانزياح عنه مهمة عظيمة لا يدركها إلا فقيه يستقرئ ما خلف النص من توجيهات إنسانية ومبادئ حقوقية، والاختلاف لا يمثل جهلاً بالنصوص أو تجاهلاً لها بل يدل على مراعاة الواقع، والعمل بالرأي والنظر في مواقع الظن، فالاستنباط والرأي المحض لهما تأثير أقوى من النصوص والظواهر، ولنا في عمر بن الخطاب صورة الفقيه الأريب عندما توصل بفهم المقاصد ومبادئ النصوص لتطبيقات أوقف بها حد السرقة، وحق المؤلفة قلوبهم،على أساس من مقاصد التشريع لا حرفية النص، بل إنه خرج عن النص تماماً إلى حكم يناسب آنه وظروف عصره.

وبما أن الأحكام الفقهية ليست أوامر إلهية، بل آراء بشرية تعتريها الصحة والسقم، نجد الفقهاء في أحكامهم يتمايزون بين متسامح لا يرى الجلد بأكثر من عشر جلدات، إلى متشدد يوصل الحكم لدرجة القتل وبذا كانت آراء الفقهاء مختلفة حد التناقض في مسائل التعزير بلغت حد الفوضى، بل وتجاوزت في بعضها الحدود المنصوصة قطعية الثبوت والدلالة.

وإن كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحكم برأيه وهو في طريقه للمسجد أو خارج منه، أو يجلس كحكم بين خصمين فلأنه كان منشغلا بإقامة الحقوق لا بملاحقة الأخلاق عكس الفقهاء، فتتميم مكارم الأخلاق الذي بعث الرسول لأجله لا يأتي إلا بنيل الحقوق، وبذا يتغلب الانضباط على الانفلات فتتهذب وتترقى أخلاق الأفراد والمجتمعات، فالإيمان القويم إذا ترسخ بإقامة الحقوق يفرض على المرء السلوك القويم، لذا كان الرسول في الذنوب الأخلاقية متسامحا حد الرأفة والرحمة، أما في الحقوق فكان شديداً صارماً" ولتوضيح جانبي المسألة: روى الإمام أحمد وأبو داود: أن صحابيا وجد غلاماً له مع جاريته، فمَثل به، فأوتي بالغلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله: “من فعل بك هذا؟”، فقال الغلام: زنباع، "اسم سيده"، فدعاه رسول الرحمة، وسأله عن سبب تمثيله بالغلام، فقص على رسول الله ما كان من أمره، فقال صلى الله عليه وسلم للغلام "اذهب فأنت حر"، فهذه عقوبة تعزيرية للسيد الذي تجاوز حد التأديب مع الغلام.

وحديث النبي "ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته"أحمد وأبو داود والنسائي. ومعنى الحديث أن الغني الذي يماطل في سداد دينه مع قدرته على السداد يحبس، ويجوز عرضه أي شكايته وحبسه، أما الذي لا يقدر على سداد الدين فلا يحبس، وهنا دليل على أن الهدف أداء الحقوق لا العقوبة لذاتها، فتمايز أداء الحقوق بين القادر والمعسر، يمثل روح القضاء الإنساني.

أما جانب الأخلاق فالأحاديث كثيرة، ومنها أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يارسول الله، إني لقيت امرأة، فأصبت منها كل شيء إلا الجماع، فأنزل الله تعالى: (أقم الصلاة...)، فقال الرجل: ألي هذه الآية، فقال: لمن عمل بها من أمتي. "رواه النسائي".

وهذا دليل واضح يضرب آراء المتشددين الذين يفرضون عقوبة تعزيرية على الخلوة، أو يتلمسون مواطنها.

وبالمقارنة بين الحديثين الحقوقيين، والآخر الأخلاقي يتضح منهج مدرسة الرسول القضائية، فالرسول لم يهتم بقواعد التنظيم الاجتماعي اهتمامه بما يتضمنه النظام نفسه من مظاهر تنسجم مع رسالة الرحمة والكرامة البشرية وصيانة الحقوق والحريات الفردية.

بل ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاقب فقط بالتوبيخ والوعظ، إذ أمر الصحابة أن يبكتوا شارب الخمر، فأقبل عليه الصحابة يقولون: ما اتقيت الله، ما خشيت الله، ما استحيت من رسول الله!

ولأن قداسة الأحكام مستمدة من كتاب الله حرص الرسول على عدم تدوين السنة،لإدراكه أن حاجات الناس وظروفهم تحيل الرؤية الفقهية للزوم التبديل والتغيير تماشياً مع العصر وظروفه" أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وهنا يبرز تساؤل عن قداسة أقوال بعض الفقهاء والتمسك بها رغم اتصافها بالقسوة وربما بالإجحاف وإن كانت في زمنها مأنوسة دارجة، فحق التشريع لرعاية المصالح وغاية الرسالة التأديب والتهذيب لا إيقاع العقوبة والألم.

وكون المدرسة الفقهية تستند في أحكامها لمدرسة الحديث جاءت الأحكام في غالبها تبريرية لا استقرائية أو استنباطية دلالية، فما نسب للرسول الكريم وخالف في نطقه أو روحه القرآن الكريم لا يمكن اعتباره حديثاً صحيحاً بغض النظر عن ميزان براءة الرواة خاصة إذا ما أضيف لذلك الربط بعصر تدوين الحديث وبُعد زمنيته عن حياة الرسول بما جاوز تقريباً قرنين من الزمان.

إن مصطلح التعزير ذكر ثلاث مرات في القرآن الكريم وفي جميعها جاء بمعنى المؤازرة والتعظيم والاحترام لا بمعنى العقوبة أو التأديب والفقهاء عرفوا التعزير لغة بـ:التأديب أما شرعا: فمرة سموا التعزير نفسه عقوبة ومرة أطلقوه على الحكم، وهذا خلل واضح يبدأ ولا ينتهي من التعريف، إضافة لخلل الشروط وخلوها من تقدير حال المعاقب وخلفية ملابسات مخالفته ومن تعريفاتهم أنه :عقوبة يقررها ولي الأمر على جرائم لا حد فيها ولا كفارة، أو بأنه: أي حكم لم يصدر فيه حد شرعي وليس بقصاص، ويقول ابن تيمية (أنها مثل الذي يقبل الصبي الأمرد أو المرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يقذف بغير الزنا، أو يطفف في الميزان أو يرتشي...، وهنا يلاحظ الخلط بين الحقوق والأخلاق، والتركيز على الخلوة الذي وضح موقف الرسول منها، فهل الفقهاء أكثر حرصاً من رسول الله على تقويم أخلاق الناس؟!!

أما التحرش بالطفل فيراه الفقيه كتقبيل المرأة؟! فهل الشذوذ كالطبيعة!، وبعضهم قرر تعزيراً غريبا بقوله "وقد يعزر بتسويد وجهه" حاولت فهم عبارة "تسويد الوجه "فلم أوفق، وهذا دليل يفيد أن ما صلح لسابق أمة لا يصلح لآنها وما صلح الآن سيتغير قادم الأيام، ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع الحالات التي صنفت كمخالفات، لا يمكن الاعتراف بعقوبتها ما لم تقنن ويرضخ لها الجميع.

في القرآن الكريم تم إقرار المبدأ العام الذي يقوم عليه نظام العقوبات والمخالفات بقوله تعالى:"وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين" ومن هنا وجب أن تكون العقوبات أو المخالفات مثلاً بمثل، مع مراعاة روح الرسالة السماوية بوهجها الإنساني، فالشريعة رحمة للنفوس تهدف لتهذيبها لا تعذيبها.

إننا اليوم في آنٍ لا نستطيع الانفلات من المظلة العالمية الحديثة، ولا مكان في العالم للمنعزلين عنه، يؤيد حديثي حرص الرسول على نظرة العالم للإسلام والمسلمين، عندما رد على الصحابة الذين طالبوه بقتل المنافقين بقوله"أتريدون أن يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه؟!" وهنا دلالة واضحة لتأييد الرسول للاندماج العالمي بحيث تكون مرونة الإسلام ومسؤوليته الحقوقية معبراً للعالمية والانتشار، فالحقوق تفرض علينا قانوناً عالمياً مستمداً من عالمية الشعور بالإنسان، وبالتالي الانضمام للمنظمات الإنسانية بات ضرورة ملحة تحت مظلة"المصلحة العامة".