(تعوذ من الشيطان ياوليدي وقوم صلي. اليوم جمعة وأنا بشغل لك العود عشان تتبخر فيه قبل الصلاة). جملة عفوية تخرج طازجة من قلب عجوز أحسائية يفيض صوتها بعذوبة منحتها إياها مياه عين نجم حين كانت تجري عذبة ترطب الوقت وقرن الشمس والرمل والحجر وقبلا قلب البشر.
حينما تتذكر أي أخت كبرى ولتكن (عائشة) ـ مثلا ـ ضحى من ضحوات قديمة لأيام جمع بعيدة، يوم أن كانت كل الينابيع نضاحة بالماء. لا يمكن أن تنسى هذا العبارة.
كل الأمهات رددنها بكل اللهجات، المصرية تصدح بها متيقنة، تطلقها تجاه ابنها المتبطل (قوم يا بني تلحق تصلي لك ركعتين، يمكن ربنا يفرجها في وشك يا رب)، بينما المكية لا تختلف عنها وهي تصيح بحنو ووقار صوت استمد جلاله من زمزم (قوم يا واد اتروش والحق الجمعة في الحرم) وعلى غرارها ترش الأم اليمنية حنانها متوسلة (قم وجه الله عليك الحق أمصلات).
لهجات مختلفة، تصب من ثقافات متداخلة، متخالفة، لكنها مزنرة بحقل أخضر شفيف (يتنوع في إطار الوحدة).
النبل والنقاء والبراءة أصل إنساني واحد، قيمة مشتركة، تتواطأ الأمهات على إشهارها في وجه الكسل والتلذذ بنومة صباحات الجمعة التي هي عند المسلمين بمثابة يوم الفكاك من روتين أيام العمل القاسية والعبء النفسي الذي يتحول إلى بدني، في جسد يتحرر يوم الجمعة، فيصير النوم لينا يستحق أن يكون "ليلا ولباسا"، حتى وإن ارتديناه في آخر الليل حيث مراتع الغلس والغبش.
أعرف أناسا لا يعتبرون أنفسهم ناموا إن لم يغمضوا أجفانهم مع آخر انسحابات ظلام الليل، وكثيرا ما تكون أضواء الانسحابات مختلفة بما تحمله من خفر.
في اللغة الغسق أول الليل، ولكن آخره غلس وغبش (فامتطى غلس التيه ظعنهم، والرياح مواتية للسفر، والمدى غربة ومطر "الثبيتي") ، وأيضا بينهم غين مشتركة ربما تحتاج تفسيرا، بيد أن صفاء الأمهات لا يحتاج تفسيرا ولا تبريرا، فالحب لا يفسر.
الحياة حين تصفو لا تفسر، يغمرها الحب بكل عذاباته وأشواقه، نزواته وخصوماته، وطعناته ولعناته، حماقاته واعترافاته التي تصقله وتعيد وهجه من جديد بعد أن تزيح رماد الأسى.
وحين تغيب الأمهات نغدو نطارد حبا لا يشبه إلا حب أمهاتنا فنعذب كل امرأة تهبنا حبها حتى نتمكن من نزع الشعرة الدقيقة جدا التي تشكل عمودا صلدا وشفافا يفرق بين الحبين، وربما لن نعثر على تلك الشعرة المستدقة والشديدة الزئبقية إلا في وقت حميم، فنعود نتذكر أسلافنا الذين لم تنفصل اللغة يوما عن حياتهم حين قالوا: (إذا نُكح الحبُ فسد).