شدتني أسطورة في زمنٍ غابر لأعيدُ استذكارها تأملاً: "في أحد أيام الشتاء، أقامت عائلة تتكون من أربع ضفادع في بركة ماء نقية عاشت في جو يتميز بالهدوء والاستقرار، ومرت بهم شهور يرتعون ويمرحون في موقعهم الخلاب يعيشون بمأمنٍ ومتعة حياة.

وفي أحد الأيام ودون مقدمات ساءت أحوالهم عندما جاء إلى الضفادع طائر (أبو قردان) يحذرهم بأن البرك التي حول بركتهم بدأت في الجفاف، وأن هناك تنبؤات بأن بركتهم ستنضب لأن صيفهم القادم شديد الحرارة، فدعاهم ليتحركوا تخطيطاً وبحثاً عن بركةٍ أخرى.

اجتمع أصدقاء أبو قردان لمناقشة خبره اليقين، حينها بدأ النقاش بين الضفادع الأربعة مختلفةً في رؤاها وقراراتها، حينها تدخل أبو قردان قائلاً ليس هناك وقت لهذا الخلاف، فالبركة سوف تجف تماماً خلال فترة قصيرة، ألم تروا أن منسوب المياه بدأ في الانخفاض والوقت يداهمكم وأنتم لم تعلموا أم إنكم لا تريدون أن تعلموا!. تدخل الأول صارخاً بأعلى صوته: هذا ليس صحيحاً، فمنسوب المياه جيد، ونحن سعيدون به، ولا يوجد ما يدعونا أصلاً لطرح هذا الموضوع أساساً. تنهد الثاني قائلاً: أنا أحب هذا المكان، فهو يحمل أجمل ذكرياتنا وعندما تجف البركة تماماً سوف نرى ما يستوجبنا فعله. تدخل الثالث بسخرية: لا تخدعوا أنفسكم فمنسوب المياه فعلاً بدأ في الهبوط، انظروا إلى تلك الجدران والأعشاب المتطحلبة فقد بدأت في الظهور، يجب أن نتخذ قراراً سريعاً بالانتقال لبركةٍ أخرى قبل الجفاف، وكفانا نياحاً وبكاءً. وبلغةٍ واثقة تعلوها نبرة حزينة قال الرابع: أنا أعلم كم أنفقنا من الوقت والجهد حتى وجدنا بركتنا هذه، ولكني قلت لكم لا تركنوا لها فقط فالحياة (تتغير)، لقد كنت في فترة راحتكم أتغيب عنكم باحثاً عن بركةٍ أخرى مستقبلية تَضُمنا في مثل هذا الوقت، فهيا بنا.

قاطعه الأول: بعد أن (وضع يديه في أذنيه) اتركوني وحدي، سوف أموت هنا، ولن أترك بركتي مهما حصل. تبعه الثاني: إنها مشكلة، وأنا أخاف من الذهاب خارج هذه البركة فهي حياتي، حاول الرابع إقناعهما: إن هذه المشكلة داخلكم فظننتم أن بركتنا هي أجمل بركة في حين أنكم لم تجربوا العيش بغيرها، صدقوني.. إن تمسكنا بهذه البركة، فإننا قد نفقد حياتنا التي نحاول التمسك بها. هز الثالث رأسه: صدقت ولا بد أن تؤمنوا بأن قانون الاستقرار ليس له وجود على هذه الأرض، فاحزموا أمتعتكم معنا كي نبحث عن بركةٍ أخرى.

أصر الأول على عدم الخروج: "لا أريد أن أكون أضحوكةً للعالم، ولن أذهب للمجهول، اذهبوا وراء الوهم والمستحيل..."

النهاية مفتوحة لأسطورة جميلة تحاكي واقع التغيير الإداري بصفة عامة الملامس لعصرنا العائم بين شخصيات الأول وهو الشخص الرافض للتغيير تماماً، والثاني هو الشخص بطيء الاستجابة والمتحرك بعد فوات الأوان، والثالث هو شخص سريع الاستجابة لحدوث التغيير، أما الرابع فهو شخص (يتنبأ) بالتغيير ويستعد للتكيف والتعامل معه. وفي واقعنا المعاصر نجد سرعة رياح التغيير تهب لتكون الناطق الجبري الذي فرضه العالم الحديث والحياة المدنية المتحكمة تأثيراً على جميع المجالات المختلفة، ليكون التغيير والتطوير أنموذجا راقيا لتقدم الشعوب وتأخرها.

وعند النظر إلى واقع وزاراتنا ومؤسساتنا الحكومية والتعليمية نجد أن أنظمتها الإدارية يرزح أغلبها تحت وطأة مقاومة التغيير والانغلاق البيروقراطي، و(هذا ما وجدنا عليه آباءنا) وقاعدة (المدير) ومن خلفه الطوفان.

للأسف أن محصلة ذلك هي ضريبة كبيرة مازلنا ندفعها كتوتر نفسي يومي في قضاء حاجاتنا وتعطل في دورات الحياة واستنزاف لأجيال الوطن ومستقبلهم، ونحن الآن في أمسّ الحاجة للتفكير خارج الصندوق وإلى إدارات حديثة بدماء متجددة شريطة أن ينطلق ذلك (أولاً) من التعامل الإنساني ثم فلننطلق إلى القيادة العصرية بأدواتها، والتكنولوجيا بكافة سرعاتها مع إهمالٍ كامل لمقاومي التغيير وتركهم خلفاً فإما أن يلحقوا بركب التطوير والتغيير أو فليسلموا بأنه سيتجاوزهم ولن يُلتفت إليهم حتى وإن اعتقدوا أن ذلك الأفضل بالنسبة لهم كحال ضفدعنا الرافض للتغيير الذي يعتقد أنه مازال يعيش في أفضل مكان، لأنه لم يرَ سوى حدود بركته فقط!