إنه خبر مريع أليس كذلك؟

قراءة دقيقة متأنية فاحصة دؤوبة مراجعة لخمسة آلاف كتاب، فليست قراءة مثل قراءة، وليس ما يثبت في الذهن فيغير السلوك مثل قراءة عابرة وكأنها الطيران فوق القارات دون اجتماع بأحد، إنه قراءة ما يعادل مكتبة عامرة بذخائر الفكر الإنساني قبل الشروع في تأليف الكتاب الأول!

إنه خبر مفزع لمن تجاسر فاقتحم عالم القلم والأفكار. أليس كذلك؟

ولكن هذا ما أفادنا به من كتب عن ويل ديورانت صاحب السفر والموسوعة (قصة الحضارة) بـ 42 جزءا.

مع هذا فليس قراءة مثل قراءة. وأذكر في هذا تجربتي مع زميلي الدكتور مرسي، فقد اعتدت أن استشهد بفقرات من كتاب حفرت أفكارهم في ذاكرتي جيدا، مثل قصة انهيار ودفن مملكة آشور الحربية، وهو فصل ممتع من كتاب توينبي عن انهيار الحضارات، ويذكر أن صعود الحضارات مختلف باختلاف المنبه المناسب أو ما يسميه التحدي المناسب في حده الذهبي، فيذكر هضبة سيلان ومستنقعات النيل وأهوار شط العرب وحوض الجانج ومرتفعات الإنديز وغابات يوكوتان، كلها في صور متباينة من التحديات الموقظة لنهضة الحضارات وانبعاثها، ولكنه يصل إلى رسم قدر مشترك متشابه من نهاية الحضارات، مثل ألوان الشعر المختلفة عند شباب يافعين وحسناوات شابات من أسود وخرنوبي وأشقر وأحمر وكستنائي، لتكون نهاية ألوان الشعر في الشيخوخة واحدة من شيب أبيض عند الشيوخ والعجايز المسنات، في قدر لا مهرب منه ولا وزر.

ومما يذكره توينبي عن مصائر النهاية المأساوية أن خلفها الإخفاق في تقرير المصير بأشكال شتى منها النزعة الحربية، وهي المثل الصارخ عند دولة آشور، ويصفها توينبي بأنها تلك الدولة المروعة الحربية التي دفنت في درعها الحربي، فلم يبق لها أثر، حتى إن حملة عسكرية يونانية مرتزقة مرت من المنطقة بعد دمارها عام 604 قبل الميلاد. إن كزنوفون يتعجب من فخامة التحصينات لقلاع وأسوار وبيوت لا أثر لساكنيها، مذكرا بقول الرحمن الرحيم (وبئر معطلة وقصر مشيد). المهم في حديثي أنني كنت أذكر أمثال هذه الأفكار لصديقي مرسي فأغراه الموضوع باستعارة المجلدات الأربعة مني وانكب على قراءتها، وفي يوم سألته عن فكرة دمار دولة آشور فهز رأسه متعجبا أين الفكرة. وكأنه لم يقرأ الكتاب، وهذا شاهد على أن قراءة خمسة آلاف كتاب لا تعني الكمية والرقم، بل الاسترسال والتعمق والهضم والامتصاص، بحيث تتحول الفكرة إلى قطعة من النسيج الثقافي عند القارئ المثقف.

ويروي لنا ابن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة أن كمية من حفظ عشرة آلاف بيت من الشعر تدخل المرء مملكة الشعر فتفيض القوافي من جنانه على لسانه. وأنا شخصيا لم يتحسن بياني ونطقي إلا بعد حفظ القرآن، ولهجتي لمن يسمعني يحتار فيها من أي بلد أنا. ويشكل عليه استخدامي لغة القرآن وهو أمر لم يعتده الناس، فيقولون من أي بلد ومدينة هو؟ ذلك أن نطقي أقرب للفصحى، فمنهم من يسخر مني من خلف ظهري بسبب استيلاء اللهجة العامية على ألسنة القوم. ولو تكلمت اللهجة الماردلية، من حيث ولدت وترعرعت في القامشلي ما فهمني أحد قط. ومع حفظ القرآن استقام لساني مع القواعد، وكانت كريهة بغيضة لقلبي من ذكريات أستاذ كان يجلدنا للنحو والصرف ونحن طلاب ابتدائي.

ولم يكن ديورانت، صاحب موسوعة قصة الحضارة، يكتب مجلدا من مجلداته الأربعين، إلا بعد قراءة خمسة آلاف كتاب، وزيارة علمية لمنطقة الحضارة من هند وصين وطليان وعرب ويابان.

وكذلك فعل محمد عنان في موسوعته حول التاريخ الأندلسي وشمال أفريقيا من مرابطين وموحدين وتاشفين وأبو يعقوب.

وروى لي جودت سعيد ملازمته للمكتبة الوطنية في القاهرة عشر سنين بعشر ساعات يوميا، في لذة لا تعدلها لذة.

وكذلك حبس نفسه كارل ماركس في مكتبة لندن عشر سنين قبل أن يخرج بكتاب رأس المال.

ولم تكن مقدمة ابن خلدون لتظهر للسطح لولا العزلة في قلعة عريف في المغرب ولمدة خمسة أشهر متتاليات من العزلة في هدوء عن زوابع السياسة وطوفان النزاع القبلي، فأكرمنا ابن خلدون بتلك الحكم القريبة المحجوبة على حد قوله.

وكذلك فعل عبد الحليم أبو شقة في كتابه (موسوعة تحرير المرأة في عصر الرسالة) فاكتشف حقولا مجهولة في قضايا المرأة، كنت أنا وزوجتي ـ رحمها الله ـ ممن استفادوا منه جدا. والله يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل.