احتضنت جدة – الأحد الماضي – ثمرات عقول بعض أبناء وبنات هذا الوطن في معرض "ابتكار 2010" حيث اطلع زواره على (92) ابتكاراً سعودياً في مجالات الطب والبترول والمياه والتصحر وخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة.. وغطت الصحف المعرض خبرياً– كالعادة – دون أن تجعل منه مناسبة تسائل المجتمع: ماذا قدم لمناخ الابتكار؟ وأين مؤسسات البحث العلمي من احتضان المواهب؟ ولماذا يغيب قادة الرأي عن الاهتمام بالبيئة العلمية؟ وما مسؤولية وسائل الإعلام في "الإلحاح" على دفع المجتمع باتجاه البيئة العلمية التي تشجع الابتكار وتجذر أصوله في تربيتنا؟

لم ينل المعرض – كغيره من المعارض والمناسبات العلمية- ما يدل على أن البحث العلمي ومناخاته وظروف تطوره وشروط ترسيخه في تربتنا من هموم وأولويات المعنيين بمعالجة الشأن العام في وسائل الإعلام خاصة إذا قورن بما تحظى به جوانب أخرى في حراك المجتمع.. فالأحبار التي أريقت على درب أخطاء بعض منسوبي الهيئة و"الولولة" التي ترتفع حول "تخلف" بعض خطب الجمعة، وحروب قيادة المرأة للسيارة، والمعارك الطاحنة في دائرة الاختلاط، لا تقارن بما يظهر في وسائل الإعلام حول العلم والابتكار والعراقيل التي تقف في طريقه، والإهمال الذي يلقاه أهل العلم.

لا أقول ذلك تسفيهاً لتوجه من أفرغ جهده لمعالجة "الخلل" في تلك الساحات ولا تهوينا لمخاطر الأخطاء التي تحدث فيها لكن المقارنة تؤكد أننا ما نزال بعيدين عن "مجتمع العلم" الذي تزدهر فيه الابتكارات ويتسابق في ثقافته المبتكرون والمخترعون.. فالعلم "منهج" وليس قضية موسمية – كيوم الشجرة – نقيم له معرضاً يستقبل طلاب مدارس سيرجعون إلى فصول تفتقر إلى أبسط وسائل الاتصال بالعلم وإلى معلمين هاجسهم "تحسين" الأحوال وإلى مقررات تشتت الأذهان وتشوش على العقول موزعة ما بين مطالب بالحفظ، لأن العلم هو "الرواية" وبين متطلع إلى الانعتاق من حبس التلقين لأن العلم "خراج المشاهدة".

وقضية "المنهج"، وليس المقصود المقرر المدرسي، قضية أساسية في استنبات العلم في تربة المجتمعات لأنه يترجم رؤية المجتمع للعلم وإدراكه أنه ليس أجهزة تستورد أو مصانع تبنى أو معامل تقام – مع أهمية كل ذلك – بل منهج عقلي قبل كل شيء، منهج لا يرى تناقضاً بين المران على "التفكيك والتركيب" وبين الإيمان بأن لهذا الكون "المركب" من تفاصيل كثيرة خالقا يعبد، يرجى عفوه ويخشى عقابه.. وهو الخالق الذي منح الإنسان عقلاً قادراً على سبر أغوار هذا العالم الغامض ومنحه القدرة والدأب على الاقتراب من مكوناته وأسراره والسيطرة على "مفاتيحه" ومعرفة "العلاقة" التي تربط بين تفاعلاته.. قد يتوهم البعض أن تدريب عقول الناشئة على "التساؤل" و"تمحيص الأقوال و"رفض التسليم" بكل ما يسمعون سيؤدي إلى إضعاف نزعة الإيمان بالغيب وبالتالي يزيد من تحلل الإنسان من "مسلمات" الدين.. هذا الخوف والتوجس منشؤه – في رأيي – شيئان: عدم نجاح مناهجنا في تربية عقل مسكون بالتساؤل مشغول بالتأمل باحث في سنن الكون التي لا تتأثر بمزاج أحد أو تتبدل بظروف مجتمع – مهما كانت خصوصياته. ثم أوهام البعض الذين استقر في وعيهم – بخطأ الاستقراء – أن شرط العلم هو "الانفكاك" من لوازم الدين حتى لا يبقى العقل أسيراً لأي عائق أو خاضعاً لأي توجيه غير ما يصدره العقل نفسه المسترشد بما تنتجه المختبرات.. وهذا الفريق – غير العلمي – هو نتاج مرحلة التخلف وخطؤه جاء من أنه لم يستطع أن يفصل ما بين التجربة التاريخية والمبدأ العام الذي يحكم حياة الإنسان وعقله في عمومه. وحتى نتخلص من هذا العائق – عائق الخوف من العلم على التدين والتخويف من التدين على النهضة العلمية – يحتاج المجتمع إلى منهج عام يتصالح فيه العلمي مع الفقهي تصالحاً حقيقياً. ثم تستشعر هذا التصالح، المؤصل القائم على أسس دينية وعلمية، كل أطياف المجتمع المؤثرة دون أن يحول بينها وبين الحوار والاختلاف حول بعض التفاصيل فذلك من دلائل صحة البيئة العلمية وإشارة إلى حيوية التناغم ومناخ الحرية.

وإذا انتهى المجتمع إلى هذا "المنهج" العلمي الديني يكون قد خطا في الاتجاه الصحيح لكنها الخطوة الأولى التي لا تجعل المجتمع علمياً، فدون ذلك الكثير من العمل الجاد الضروري، ومن ذلك المعرفة العلمية التي تبدأ مع الإنسان في أيامه الأولى ويغذيها محيط الأسرة وتمتد غصونها في سنوات التلقي الأولى وتتجذر عروقها في كل مراحل التعلم حتى يصبح الإنسان "علمياً" بالفكر والمنهج والنظرة إلى الأشياء.. ثم يأتي السخاء في الإنفاق على البحث العلمي واحترام حريته وضمان حرية نشر نتائجه وحماية حرية إبداء الرأي في ما لا يؤدي إلى العلم.

إذا تمكن المجتمع من الوصول إلى "الأرضية المشتركة" في أهمية البحث العلمي، واعتبر العلم هماً وطنياً مشتركاً، وتخلص من كل عيوب "اللاعلمية" ووفر للباحثين مناخاً يطلق قدراتهم وعقولهم للابتكار يكون قد شرع في "توطين" المعرفة العلمية التي تحتاج، هي الأخرى، إلى "حماية" العلماء والمبتكرين من "سراق" الفكر بإنشاء مظلة قانونية تحمي حقوقهم من استغلال الشركات، خاصة أن المبتكرين في مراحلهم الأولى تسيطر عليهم "عفة العلم" و"براءة البدايات" وتدفعهم شحنات النجاح فلا يرون من الصورة إلا وجهها النقي، فهمهم الأكبر والأوحد هو أن يسجلوا تقدماً على طريق ما يشغلهم.. وإذا توفر للمبتكرين الحماية القانونية والتشجيع ومساعدتهم على رؤية ثمرات عقولهم معكوسة على حياتهم وحياة أسرهم وأجيالهم القادمة، فإن ذلك سيشجع ثقافة العلم ويرفع قيم أهله ويبسطه للناس ويخلق في ثقافتهم الاهتمام بأحوال المخترعين والمبتكرين والإحساس بما يمرون به ضيق وسرور وتوتر وسعادة.

العلم ليس مصانع تقام ولا ورشا تبنى، العلم ثقافة تنبت في التربية، تغذيها الإرادة وترعاها ثقافة تستشعر أهميتها. فكما كان العرب يتحدثون عن "ولادة القصيدة" يحتاج المجتمع إلى أن يحس "بمخاض" تجربة المبتكر والمخترع حين يذوقون حلاوة اكتشاف العلاقة العلمية التي تربط عناصر الابتكار وقلق لحظة "تفجر" الابتكار والاختراع. هذا المناخ الثقافي هو الذي يرفع من قدر المخترع وينقله من ظلال المعامل إلى أضواء الحياة لتصبح الأرض التي يقف عليها طموح وهدف الشباب.