مع انتشار ظاهرة الثورات في بعض البلدان العربية التي صنعتها الجماهير، وليس النخب السياسية أو النخب العسكرية أو الدينية كما في بعض الدول الأخرى سابقاً، وإنما كان الصنع من قبيل الشعب نفسه، وهي حوادث جديدة على الفكر العربي، إذ لم يسبق لها مثيل طيلة تاريخ العرب، فالتغيير في العالم العربي كان تغييراً من الأعلى إلى الأسفل، في حين انعكست هذه المعادلة مع الثورات الجديدة، فأصبح رجل الشارع هو المهيمن على مجريات الأحداث، وليس رجال السلطة، أو حتى النخب الحزبية. هذه المرة جاءت من قبل الشعب، والشعب نفسه، من غير أي تدخل من أي أحد من النخب العليا، أو الراغبين في التغيير السياسي من داخل السلطات العربية. رجل الشارع قال قولته وأحدث الانقلاب المفاجئ، الذي لم يكن في حسبان أحد حتى أكثر المحللين نباهة.

مع هذه التغييرات الثقافية والسياسية في العالم العربي يعود السؤال القديم/ الجديد حول من يقود التغيير..؟ السؤال سوف يسقط في مجمله في حال فكرنا في الأوضاع العربية الحديثة وأنها جاءت من رجل الشارع، ولذلك لا أهمية له من الأساس في نظر البعض. هذا صحيح من الجانب النظري، لكن على الجوانب التطبيقية تبرز إشكاليات كثيرة في الإجابة على مثل هذا السؤال، ففي نظرتنا الأولى لديه يفترض أن التغيير دائماً يحتاج إلى قيادات ثقافية أو سياسية أو دينية مما يعيدنا إلى ذات النقطة التي رفضها الواقع العربي في الثورات الحديثة؛ كونها جاءت من الشارع وليس من النخبة، ولكن.. هل فعلاً انتهت النخبة هنا بحيث لم يعد لها التأثير على رجل الشارع..؟ الإجابة على هذا السؤال تدخلنا في متاهة فكرية ثانية، حيث إن بعض النخبة الفكرية والسياسة كان لها وجود فعلي في ميدان التغيير سواء في ميدان التحرير المصري أم في الميادين العربية الأخرى.

إننا في حال أجبنا بسقوط النخب فإن في ذلك تجاهلاً كبيراً لقيادات بارزة ربما تستلم زمام الأمور فيما بعد؛ لما يحظون به من جماهيرية عريضة، أما إن كانت إجابتنا ببقاء هذه النخبة وتأثيرها المباشر على الجماهير فإن في ذلك استهتار بالتحرك الجماهيري العريض الذي يلغي هذه الرؤية في مجملها. مشعل الثورة التونسية محمد بوعزيزي لم يكن من النخبة أبداً، بل هو رجل الشارع، كما أن كل الذين خرجوا إلى الميادين هم رجال الشارع.

الرؤية السابقة للجماهير كانت دونية، الآن أعتقد أن هذه الرؤية بدأت تأخذ جانباً آخراً، فقد بدأت تحترم رجل الشارع. ذلك الرجل الذي كان عند الكثير من المفكرين العرب ورجال السلطة وغيرهم، يعتقدون أنه إذا خرج إلى الشارع فإن الفوضى هي سيدة الموقف. في الثورتين: التونسية والمصرية كان رجل الشارع ضد هذه النظرية وأثبت عكس ذلك تماماً. أثبت أنه الأكثر تحضراً. البلطجية كانوا من صناعة السلطة. في الحالة: الليبية ثبت أن السلطة هي الأكثر همجية، وهي الأكثر تخلفاً عن متغيرات الحياة، وإلا ما حصل شي من تلك الثورات منذ البداية لو أن الأمور كانت على ما يرام. إذن.. من الذي كان يشوه رجل الشارع..؟ يبدو أن السلطة دائماً كانت تحاول الإيهام بأنها الأكثر تحضراً، وهي صمام الأمان في رؤيتها لنفسها، فإن ذهبت عن رأس السلطة فإن الفوضى سوف تعم.. الواقع أثبت العكس، ذهبت بعض رؤوس السلطة ولم تعم الفوضى، بل خرج رجل الشارع ليكنس آثار الفوضى التي صنعها بلطجية بعض الأنظمة. يبدو أننا في معادلات جديدة.

هل أجبنا على سؤال المقال؟ بالطبع لا حتى الآن، لأن الإجابة الجازمة سواء التي تنحاز للنخبة، أو تلك التي تنحاز للجماهير سوف لن تكون إجابة شافية في رأيي، فنحن أمام شكل جديد من التغيُّرات الثقافية والاجتماعية، ولذلك فرؤيتنا تحتاج إلى إعادة نظر. نحتاج أن تكون زاوية النظر مختلفة حسب اختلاف نوعية هذه المتغيرات.

برأيي أن الجماهير لم يكن بمقدورها صناعة مثل هذه الثورات من غير تخطيط بعض النخب لأنها مشغولة بالآني من حياتها اليومية. أيضاً لم تكن النخبة لتصنع شيئاً من غير الجماهير. هل أقول بأن الجماهير مجرد وقود هنا؟. طبعاً لست أقول ذلك، وإنما المسألة تعود إلى اتساع دائرة النخب في داخل دائرة الجماهير. كانت الجماهير مجرد أداة في يد النخبة. الآن النخبة دائرة داخل دائرة الجماهير، أي أنها تتفاعل مع يوميات رجل الشارع. هل أقول بانتهاء النخبة واندماجها في الجماهير؟. أيضاً لا، فليست المسألة بهذه البساطة.

المسألة في نظري تعود إلى اشتغال النخبة الجديدة، أي أن النخبة التي كنت تعيش في أبراجها العاجية لم يعد لها وجود مع تحولات الحياة واتساع الوعي الجماهيري. تأثير النخب لم ينته تماماً ولكنه أيضاً لم يعد ذلك التأثير البارز، وإنما هو تأثير بطيء يكتفي في إثارة الوعي فقط، أو توسيع دائرتها في أذهان الناس دون أن يكون له تأثير مباشر. النخب "الحركية" ـ إذا صح الوصف ـ لم يعد لها التأثير كما كان سابقاً، وإنما النخب الثقافية طويلة النفس والتي ربما اكتفت بإثارة الوعي دون غيره مازالت مؤثرة تأثيراً جيداً. رجل الشارع هو الذي يصنع التغيير المباشر ولكن النخبة تكتفي بقدح الشرارات الفكرية والسياسية في ذهنية رجل الشارع. المتعلمون في الشارع التونسي كثيرون جداً، والشعب التونسي شعب مثقف، ومعدلات الوعي التونسي عالية رغم أن الثورة كانت من قبل الشارع. وكذلك الحال في الذين بدؤوا مسيرة المظاهرات في مصر أو من جهة اتساع الوعي بسبب تلك الإرهاصات الفكرية والثقافية والسياسية في الشارع المصري طيلة السنوات الخمس أو الست الماضية، والتي كانت صريحة الانتقاد للسلطة السياسية في البلد حتى على المستوى الفني الأكثر انتشاراً في إثارة الوعي الشعبي، ومنا هنا فاتساع دائرة الوعي الشعبي بالحرية والكرامة لم يكن من فراغ، وإنما جاء بفعل ثقافي طويل الأمد حتى اتسعت دائرة النخبة في داخل دائرة الجماهير.

إن الوعي بالحقوق، والوعي بالحرية، والشعور بالكرامة هو الذي قاد إلى هذه الثورات، وهذا يحتاج إلى عقود طويلة من العمل المتواصل في إثارة الوعي. الشعور بالحرية فطري في الإنسان ولكن الوعي بهذه الحرية وقيمتها يأتي متأخراً كثيراً، وعلى ذلك يحتاج منا إلى جهود عديدة في إشعال فكري متواصل لقيمة الحرية والكرامة لدى الرجل العربي ربما يصل إلى مئات السنوات من العمل، وهذا مايفسر في رأيي نجاح الثورات في بعض الأماكن.