كانت درّة محاضرات الجامعة الإسلامية لموسم هذا العام في مساء الثلاثاء الفارط؛ لما لشخصية المحاضر من ثقل سياسي كبير، حيث حلّ سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز ضيفاً على الجامعة -التي لا تغيب عنها الشمس- في محاضرة مهمة أوصلت رسالة واضحة لكل المجتمع الفكري -الإعلامي بالتحديد- لدينا، وكان عنوانها: (الأسس التاريخية والفكرية للدولة السعودية)، تقاطر إليها جمهرة كبيرة من العلماء والكتبة الإعلاميين وصفوة المجتمع الفكري في السعودية؛ لم يأل جهداً معالي مدير الجامعة الخلوق الدكتور محمد العقلا في دعوتهم بصفة شخصية.

استهلّ سموه الحديث عن الحلف التاريخي بين الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب، وسرد نصاً؛ المحاورة الشهيرة لتلك المعاهدة التاريخية بما قاله الإمامان لبعضهما، وما حدّداه من أدوار لكل منهما، لتظل على مرّ السنين أسّ وتاج هذه الدولة السعودية بمراحلها الثلاث؛ شامة خالدة أثبتت على مرّ الأيام، متانة وقوة الدولة وتلاحمها مع شعبها، وها أنا أستحضر بعض المواقف التي تدلل على أن هذه الدولة تتماسك وتقوى بفضل بقاء هذا الحلف صامداً، وقيام العلماء بدورهم المنوط بهم، فإليكم بعض مواقفهم التي حسمت تلك الأزمات، فمن أزمنة التأسيس يذكر التاريخ موقفهم المشرّف مع الملك عبدالعزيز في معركة (السبلة)، مروراً بمؤازرة الفيصل العظيم في إيقاف المدّ الناصري. هناك حادثة احتلال الحرم من قبل جهيمان وزمرته أيام الملك الصالح خالد بن عبدالعزيز، ويظل الموقف القوي لهم -جابهوا به علماء العالم الاسلامي وقتذاك- في فتوى الاستعانة بالقوات الأجنبية وتأييد الدولة في رؤيتها في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، وقبل عشر سنوات الموقف الصارم منهم حيال الإرهاب والإرهابيين وقد تورط بعض أبنائنا فيه، وأخيراً وليس آخراً؛ دور علمائنا الكبار يحفظهم الله في تثبيت المجتمع في (ثورة حنين) قبل أسابيع قليلة، ووقف العالم كله متعجباً من أنّ الإعصار الذي عصف ويعصف بالدول العربية من جانبنا وحولنا، تحوّل سكوناً، ونسيماً ربيعياً أخاذاً، حمل في طياته ولاءً وبيعة شعبية صامتة لولاة الأمر، والفضل لله ثم لحبّ هذا الشعب ووفائه لقيادته، ولدور هؤلاء العلماء الذين قاموا بواجبهم في ذلك الحلف، والذي ثمّنه خادم الحرمين وأمطرهم بتلك القرارات تترى لمؤسساتهم التي يشرفون عليها، وفاءً بوفاء، وتقديراً بتقدير.

رسالة المحاضرة السلمانية التي كانت صريحة؛ بأننا على عهد الأجداد، وهذه الدولة قامت على الكتاب والسنة، وستظل كذلك أبداً ما بقيت، حامية لحمى الشريعة، وأنّ ذلك الحلف باق ومتوارث، حفيدٌ عن أب عن جدّ، وربما سمو الأمير سلمان هنا أخرس أولئك الكتبة الذين قالوا بضرورة تعطيل هذا الحلف -البعض حاول إنكاره أصلاً- وأنه لا يصلح أن ندخل به عالم المعاصرة والحداثة والعولمة، وأنه يتناقض مع مبادئ الدولة المدنية الحديثة، إلى غير ذلك من الحجج الشاحبة التي لا تستقيم وخصوصيتنا السعودية كدولة تطبق منهج الإسلام، وتعلنه صراحة وبلا مواربة وتفخر بذلك.

المحاضر كان اسماً كبيراً، هرولنا إليه من أمكنة بعيدة لنستمع منه ونحاوره، وأحسن سمو الأمير باختصارها، وإعطائنا زبدتها، وكنت أمني النفس بليلة فكرية باذخة، نحاور فيها الأمير المثقف ويستمع منا لرؤانا، حيال مطالب النخب والشعب وما فيه مصلحة هذا الوطن، بيد أنني صدمت من أن المداخلين كانوا قلة، والبعض أطال وأسهب كالشيخ سعود الشريم والزميلة بينة الملحم فيما لا داعي له، وليت الدكتور العقلا يعتمد في قادم المحاضرات (الثلاث دقائق الشهيرة) الخاصة بمداخلات الحوار الوطني، كي يتسنى لكل الضيوف الذين قطعوا المسافات الطويلة، وآثروا الجامعة بعزيز أوقاتهم بأن يساهموا باقتراحاتهم ويدلوا برؤاهم.

وليتسع صدر معاليه لي، وأنا لا أرى أبداً إشغالنا بتلك القصائد وتلك الفقرات التي من الممكن أن تعرض على الضيف الرئيس والمدعوين عبر زيارة صباحية للجامعة ومرافقها، تعرض عليهم هناك كتعريف لازم بالجامعة أتفهمه، فيما تخصّص الأمسية للحوار الفكري الجاد الذي جئنا جميعاً من أجله. والأطمّ الذي تضايقت منه –معي ثلة زملاء- تخصيص منبر الجامعة الإسلامية التي تقول بلغة القرآن الكريم وتنشره، حيزاً عريضاَ للشعر الشعبي، ربما لا يتساوق واسم الجامعة الوضيئة في العالم الإسلامي، ومن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. أتفهم أن يكون ذلك في بقية الجامعات السعودية لأنها ذات خصوصية محلية، إلا أن للجامعة الإسلامية مكانتها واسمها العريق، وقد عُرفت بأنها داعية لغة القران الكريم وحاملة لوائه.