لا تزال الأحداث العربية تستدعي العالم للكثير من الحركة والتفكير. فالثورات العربية لا تزال تلح على المفكرين والسياسيين والأكاديميين بعدد هائل من الأسئلة. أحد هذه الأسئلة هو سؤال العدالة الدولية. ما هي علاقة العالم كمجموع دول ومؤسسات بما يجري فيه؟ أعني ما هي العلاقة التي يجب أن تحكم المنظمات الدولية والدول ذاتها تجاه ما يجري في دولة ما أو مكان ما؟ هل يتحمل العالم مسؤولية كل ما يجري على أرضه أم إن هناك شؤونا خاصة للدول لا يجوز لأحد التدخل فيها؟ ما هي القيم الأخلاقية التي يستند عليها التدخل إن قلنا بوجوبه؟ وإلى أي حد يفترض أن يكون هذا التدخل؟ الحالة الليبية اليوم تطرح هذا السؤال بقوّة. هل يحق للعالم كمنظمات أن يتدخل في الشؤون الليبية الخاصة؟ هل يسمح الضمير الإنساني لنا أن نرى مجزرة أو مجاعة في مكان ما من العالم ونقف مكتوفي الأيدي؟

الأسبوع الماضي عقد مركز العدالة الدولية بجامعة (كاليفورنيا-سان دييقو) مؤتمرا تحت عنوان (العدالة الدولية). دعي إلى هذا المؤتمر عدد كبير من الأساتذة الجامعيين من مختلف أنحاء العالم. كان ضيف المؤتمر الكبير هو الاقتصادي والفيلسوف الهندي أمارتيا سن، الفائز بجائزة نوبل للاقتصاد وصاحب كتاب (التنمية حرية). مؤخرا أصدر سن كتابا بعنوان (فكرة العدالة) أو The Idea of Justice وكان من المناسب جدا للمنظمين أن يكون هذا الكتاب محورا أساسيا للنقاش. بدأ المؤتمر بمحاضرة لـ سن حاول فيها أن يستعرض النقاط الأساسية في الكتاب. تلا ذلك يومان من الأوراق العلمية والنقاش الحار حول فكرة العدالة الدولية وتحدياتها اليوم.

في البداية يريد سن أن يوسع مفهوم الظلم المتداول حاليا. يميل العالم اليوم إلى تصنيف الحروب بين الشعوب أو بين حاكم وشعبه باعتبارها جرائم لا أخلاقية وعناوين للظلم. يتفق سن مع ذلك ولكنه يقول إنه في ذات الوقت تحدث أحداث أخرى تتسبب في ضحايا أكبر كالمجاعات والأوبئة ولا ينظر لها على أنها جريمة. يهرب الناس من مسؤوليتها باعتبارها أحداثا طبيعية لا يد لأحد فيها. سن يجادل من أجل إعادة تعريف الظلم لتدخل ضمنه هذه الأحداث الكبرى. عدد كبير من المجاعات والأوبئة التي تفتك بالعالم يمكن القضاء عليها بتوفير أساسيات الغذاء والدواء، وهو متاح حسب القدرة الاقتصادية للعالم. الخلل يكمن في ضعف الوعي الذي يوجه الجهود والنشاطات الإنسانية.

مبحث سن الأساسي هو فكرة العدالة التي يرى أنه يمكن من خلالها رسم سياسات وطرق عمل المنظمات العالمية التي تتحمل مسؤوليات دولية لتحقيق العدالة العالمية. من أجل هذا الهدف يدخل سن في نقاش طويل مع التراث الغربي حول مفهوم العدالة. هذا التراث يمكن وضعه في تيارين أساسيين: التيار النفعي UTILITARIANISM بقيادة بنتام وستيوارت مل، والتيار المتعالي TRANSCENDENTALISM بقيادة جان جاك روسو وايماويل كانط. يناقش سن كلا المذهبين متجها لإثبات ضرورة تصور جديد للعدالة يلبي الحاجة العالمية اليوم. يناقش سن أيضا نظرية زميله الراحل في هارفرد JOHN RAWLS صاحب الكتاب الشهير (نظرية في العدالة) ليقترح في الأخير مفهوما مقارنا للعدالة في مقابل المفهوم المتعالي لها. مفهوم العدالة المقارنة يجعل العالم أمام مسؤولية أكثر مباشرة وأكثر وضوحا. فلم تعد المسؤولية اليوم تكمن في مساعدة الناس على تحقيق مفهوم مثالي للعدالة، بل من أجل تحقيق مفهوم على أرض الواقع يتمثل في مؤسسات الدولة الحديثة والاقتصاد الناجح والديموقراطية والحرية.

المفهوم المقارن للعدالة ينطلق من إقرارات واضحة لدى أغلب دول العالم على مفاهيم معينة كمفهوم الديموقراطية. علّق سن في المحاضرة على أن الشكوك كانت تدور حول موقف العرب من الديموقراطية حتى إنه قد كتب سابقا أن الديموقراطية لا تمثل مطلبا ملحا للعرب، ولكنه سعيد أنه ظهر مخطئا، وأن الملايين من العرب أثبتوا بوضوح طلبهم للديموقراطية وإيمانهم بها.

الدولة الحديثة اليوم هي نموذج المقارنة في نظرية سن للعدالة. دولة الحريات والاقتصاد الحر والعدالة الاجتماعية والشفافية وفصل السلطات. هذا النموذج الذي يثبت أنه الأفضل حتى الآن يفترض أن يكون نموذج العدالة الذي تسعى المنظمات والجمعيات لتحقيقه. وبالتالي فإن موقف العالم من ليبيا يجب ألا يتوقف على التدخل العسكري الحالي، بل يجب أن يمتد إلى مساعدات أساسية طبية وغذائية وإلى مساعدات في عمل بناء الدولة الديموقراطية من جديد.

ما يسعى سن له هنا هو مفهوم أكثر فاعلية للعدالة في العالم، مفهوم يساعد في حل أزمة المفاهيم الحالية. ليس من العدل أن يموت آلاف الناس في آسيا وأفريقيا من الجوع والأمراض ولا ينظر لهذا على أنه جريمة كبرى في حق الإنسانية، بينما يتم الاهتمام بشكل مفرط بأحداث أضرارها منخفضة جدا.

الضمير العالمي اليوم الذي يجد له مخرجا من كثير من المآسي في العالم يجب أن يعلم العالم أنه يستطيع أن يقدم الحلول، وهي حلول أسهل بكثير من الحلول العسكرية التي يتم اللجوء إليها كثيرا. تجارب سن في الهند وبنجلاديش تثبت له وللعالم أن مساعدات مالية ونظرية بسيطة للناس تساعد في حل كثير من الأزمات القاتلة التي يعيشون فيها.

نظرية سن عن العدالة تريد أن تلفت الانتباه إلى كل هذا، كما تريد أن تشكل ضميرا عالميا جديدا يشعر بالمسؤولية تجاه مظاهر الظلم بكافة مستوياتها. هذه النظرية تريد أن تقول إننا نستطيع عمل الكثير، فقط علينا أن نفتح عقولنا وقلوبنا أكثر ونحاول أن نرى العالم من جديد ونؤمن بأنفسنا. ملايين العرب يعطون للعالم دفعة من التفاؤل اليوم، ومن واجبهم على العالم أن يساعدهم في إكمال رحلتهم تجاه حياة أكثر عدالة وكرامة.