لن أمتطي موجة (هاتفني، وكلمني، وقلت له، وقال لي، وكان بيني وبينه ). ..إلخ من عبارات ومفردات نرددها بآلية ونفاق ربما، أو بشهوة حضور، أو ربما بصدق ويقين، كلما استبد بنا الفقد، وخطف الموت غيلة واحدا من الأحباب. إذ أكاد أجزم أن لكل فرد في جدة حكاية ( خاصة) مع العملاق الراحل، لكنني سأختار جملتين، مختصرتين، عميقتي المعنى والدلالة كتبهما (الصادق) عبد الله رواس ( المخرج التلفزيوني الشهير الذي رافق الراحل علي الطنطاوي في مشواره التلفزيوني)، وهو يرثي فقيد الوطن( أحب الحياة فاختار التواد أسلوب حياة)، ثم ابتهل إلى الله ( رحماك يا رب فمن يملأ الفراغ من بعده ؟ لا أحد! ). وإن كنت أوقن تماما بأنه لا أحد يسد مكان أحد، إلا أنني لست أدري إلى أي حد تصدق رؤية حبيبنا الرواس في أن لا أحد سيملأ فراغ ( أبي غنوة) رحمه الله، لكني قد أتفاءل بأن تلك الجموع التي تقاطرت ظهر أمس صوب مقبرة ( أمنا حواء)، قد تتمثل درسا من آخر دروس الدياب في ( كيف ترغم الآخرين على أن يحبوك)، بترفعك عن الرزايا والصغائر، بتواضعك، وسلوكياتك، وتعففك ونبلك، و تمثلك – قدر طاقتك - كل مفردات الخلق القويم. ليت ( بعضا) ممن كتبوا وتباكوا على رحيل دياب يتأسون بسيرته العطرة، التي كانت سببا في توافد الناس حزانى بالأمس. ليتهم يعرفون أنه جمع كل الناس حول جنازته بابتسامة وضاءة كان يشق بها كل الدروب والطرقات.
العجيب أننا كم وكم نمرُّ على المقابر، ندفن موتانا، نقف في طوابير العزاء وكراسيه، نقول النعي مرسلا، لكننا سرعان ما ننسى، نرجع سيرتنا الأولى، نعود بشرا أوغادا حمقى، متغطرسين متعجرفين وتافهين، متغافلين عن قول نبينا الكريم ( كفى بالموت واعظا)، ومقولة فولتير( كثيرون ممن في القبور كانوا يظنون أن الحياة ستتوقف برحيلهم). أتساءل بحسرة الآن، وربما ببلاهة: ( لماذا لا نتعلم ) !؟
كبير أبو غنوة، يمنحنا درسا أخيرا حتى وهو في نعشه يرف طائرا بحنان للقاء ربه، متجها صوب مكانه الأخير في هذه الفانية قبل أن تحلق روحه مع الأطهار الطيبين. قلوبنا مع ( فراشاته الثلاث" " غنوة، سوسن، سماح" اللواتي فرضن عليه أن يتحول في بيته إلى مصباح حنان يمكن أن يتهافتن عليه في طمأنينة) كما قال ذات لقاء.
ظهر أمس، كانت سماء جدة متعاطفة معه، ودماء محبته تشخب متنافرة في عروقنا، حين نثت غيمات حنونات وهي تودعه وتزفه إلى جنات الخلد بإذن الله.