لأن مفهوم الأداء الحكومي لا يزال غامضاً، فمن الطبيعي أن يختلف الناس في فهمه وتحليل أبعاده، باختلاف نظرياتهم ورؤاهم، خصوصاً إذا عرفنا أن الأداء الحكومي متعدد الجوانب ومعقد التركيب، تتحرك فيه أبعاد واتجاهات ومجالات مختلفة ومتعددة.
وهذا ما حدث بالفعل في ندوة " قياس الأداء في الأجهزة الحكومية: تجارب محلية ودولية"، والتي عقدت في مقر معهد الإدارة العامة بالرياض، فهناك خلط واضح لدى البعض في مفهوم رقابة الأداء وقياس الأداء ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر هناك غموض واضح في نفس هذه المفاهيم بالإضافة إلى تداخل الاختصاصات بين الأجهزة الرقابية في هذا المجال، فديوان المراقبة العامة من ضمن اختصاصاته الرقابة على الأداء الحكومي، وكذلك هيئة الرقابة والتحقيق تراقب الأداء الحكومي ، وهذه المهمة تعتبر من مهماتها الرئيسة أيضاً، والآن هناك اتجاه لإنشاء مركز لقياس الأداء الحكومي!.
وبناءً على ما سبق ما الفرق بين رقابة الأداء وعملية قياس الأداء في الجهات الحكومية؟ ولماذا تحتاج الجهات الحكومية إلى وجود مؤشرات للقياس؟، وللإجابة عن هذه الأسئلة، بدايةًَ، لن أتطرق إلى المفاهيم والنظريات الأكاديمية حول هذا الموضوع، ولكن سوف أتطرق إلى واقع الجهات الحكومية في مجال قياس الأداء، ومن ثم توضيح دور الأجهزة الرقابية في هذا المجال، مع التركيز على ضرورة وجود مؤشرات وطنية رئيسة لعملية القياس، ودور هذه المؤشرات والرقابة عليها في مجال مكافحة الفساد المالي والإداري، وذلك من خلال طرح أمثلة وحالات افتراضية توضح للقارئ الكريم هذه المفاهيم الغامضة.
ولنفترض على سبيل المثال أن من ضمن الخطط الاستراتيجية والأهداف الرئيسة لوزارة العمل، تخفيض نسب البطالة وإيجاد فرص عمل للمواطنين، وبالتالي كيف يتم قياس أداء الوزارة في هذا المجال؟ لذا فإنه من المفيد جداً أن يكون لدى الوزارة مؤشرات رئيسة لقياس التقدم الحاصل فيما يخص تحقيق الهدف المطلوب، وذلك على النحو التالي:
ليكن عنوان المؤشر هو: نسبة البطالة .
وليكن تعريف المؤشر: مجموع عدد المواطنين الذين لم يحصلوا على وظائف سواء في القطاع العام أو الخاص والقادرين والباحثين عن العمل مقسوماً على إجمالي عدد القوى العاملة.
وليكن القياس وفقاً: لنظام معلومات وقواعد بيانات وسجلات لكل عاطل ويحتوي السجل على معلومات معينة مثل (أسباب عدم الالتحاق بأي عمل، هل مارس الفرد عملاً خلال الأسبوعيين الماضيين؟...) نتيجةً لمسوحات لرصد القوى العاملة في المملكة والتعرف على خصائصها، وفق إحصائيات دقيقة.
وليكن الهدف: تخفيض معدلات البطالة بنسبة 10% سنوياً.
وهذا الهدف هو أحد مؤشرات الأداء الرئيسة للوزارة، وبالتالي فإن هذا المؤشر سوف يتركز في إدارات وقطاعات الوزارة مثل الإدارة المختصة بالسعودة وتطبيق شروط التوظيف في الشركات والمؤسسات فهذا ينصب في تقليل نسب البطالة، وعليه يصبح لكل إدارة أيضاً مؤشرات وأهداف أخرى، وجميعها تنصب في المؤشرالرئيس للوزارة، كما أن هذا المؤشر يعطي لكل موظف صورة واضحة عن الأنشطة الهامة وعما هو مطلوب تحقيقه، وهذا ما يساعد على التحكم في أداء العمل، فبه تتأكد الإدارة العليا أن جميع الموظفين يركزون على تحقيق أو تجاوز تلك المؤشرات.
وبعد ذلك يأتي دور رقابة الأداء في المصادقة على هذه المؤشرات لضمان المساءلة، من خلال التقارير السنوية للوزارة، حيث إن من ضمن العناصر الرئيسة لها هو عنصر الفاعلية فيما يتعلق بتحقيق أهداف الجهة الحكومية محل الرقابة، وتهتم بتحديد العلاقة بين النتائج المستهدفة والنتائج الفعلية للمشروعات والبرامج والأنشطة الأخرى.
وعليه فإن رقابة الأداء تسأل: هل تم تحقيق الهدف وهو تخفيض نسبة البطالة؟، هل هذه النسبة تمثل بشكل عادل البطالة الحقيقية؟ ما هي الأسباب الكامنة والحقيقية وراء عدم تحقيق هذا الهدف؟ وما هو الأثر المترتب على ذلك؟.. ومن ثم يتم تقديم توصيات من شأنها تحسين أداء الوزارة في هذا المجال.
أما دور هذه المؤشرات والرقابة عليها في مجال مكافحة الفساد، فعند نشر هذه المؤشرات المصادق عليها عبر موقع الوزارة في شبكة الإنترنت على سبيل المثال، فإن ذلك يساعد على بناء ثقة المواطنين وصنّاع القرار في الوزارة، وبالتالي فإن كل موظف سوف يشعر بالمسؤولية تجاه تحقيق هذه الأهداف التي تمثلها مؤشرات الأداء، وإن عدم تحقيقها سوف يعرضه للمساءلة.
هذا بشكل عام فيما يتعلق بمؤشرات قياس الأداء دون الدخول في التفاصيل وكيفية تحديد هذه المؤشرات بما يتناسب مع نشاط الجهة الحكومية.
وما ينطبق على وزارة العمل ينطبق على باقي الوزارات الحكومية الأخرى مثل (الصحة والتعليم والبلديات والشؤون الاجتماعية،...).
أما بالنسبة لواقع رقابة وقياس الأداء الحكومي، فإن المشكلة تكمن في عدم وعي وإدراك البعض لأهمية الأداء، ناهيك عن عدم إدراك المفهوم الحقيقي لمؤشرات الأداء الرئيسة.
فكثير من الجهات الحكومية لديها خطط استراتيجية وأهداف عامة، تضمنتها خطط التنمية للدولة، قد تخلو تماماً من وجود أية مؤشرات أداء يجب تحقيقها، علماً بأن كل جهة حكومية تقوم برفع تقارير سنوية لمتابعة تنفيذ خططها التشغيلية، ولكن يغلب على هذه التقارير اللغة الإنشائية في التعبير عن تحقيق الأهداف الرئيسة لها، كما أنها لا توجد مصادقة من جهة محايدة ومستقلة على هذه التقارير وما تم تحقيقه من أهداف.
وبالتالي فإننا بحاجة ماسة إلى وجود مؤشرات وطنية كمنظومة متكاملة للعمل الحكومي تلتزم بتحقيقها الجهات الحكومية المعنية، وخاصةً في القضايا الاستراتيجية مثل البطالة والإسكان والتعليم والصحة والبيئة والبنية التحتية ومشاركة المرأة وغيرها، ونشر هذه المؤشرات على المواقع الإلكترونية والوسائل الإعلامية المختلفة، مع وجود رقابة فعّالة ومستقلة على هذه المؤشرات تساعد على الوثوق بمدى عدالتها وتمثيلها للواقع.