نعم هي الحياة بكل تجلياتها. فكل الأشياء بعد تمامها تأخذ في النقصان، فتاريخ البشر هو تاريخ فقد الحيلة والاستسلام لسطوة هذا النقص، وكأن الانحدار حتمية لا فكاك منها، وكأن هناك يدا تنازع الإنسان لتأخذ منه كل ما له إلا إذا أثبت جدارته لمنازعة سطوة الأيام، فالتدهور هو الحتمية التلقائية حتى يبذل الإنسان جهداً واعيا ومعرفيا لصيانة نفسه ومقتنياته.
فأجسادنا تصل لقوتها وتمامها وجمالها دون جهدا يذكر فلا نحتاج لأن نلقي بالاً للتغذية أو حتى للرياضة، وبمرور الزمن ما كان يعطى لنا بتلقائية يصبح لزاما علينا أن ندافع عنه بجهد حتى نحفظه دون تغيير. وقد تقدمت البشرية علميا لتطيل عمر الجسد ولا نعرف إلى أي مدى ستصل، لكن لدينا نماذج في الحفاظ على الصحة والشباب لم تكن قبل مئة عام أمرا ممكناً فربما سيصبح متوسط عمر الإنسان 120 عاما كما قال بعض العلماء.
ووعي الإنسان برغبته في الدفاع عن معطيات الحياة الحلوة لا نبذله غالبا إلا على أجسادنا وممتلكاتنا الأخرى لكنه نادرا ما يصل لعواطفنا وعلاقاتنا مع الآخرين. فالحب بين المرأة والرجل يبدأ بنظر وبإعجاب ولحظات حلوة غير مكلفة مليئة بطاقتها الداخلية فتكون العلاقة محملة بزخم إلهي من المشاعر الجميلة في أول مراحلها حتى تصل لتمامها ثم تبدأ الحيوية والبهجة بالتسرب من العلاقة والاضمحلال حتى يعمل الطرفان بوعي على إشعال جذوتها مرة أخرى.
والحضارات البشرية ينطبق عليها نفس المفهوم، فالفكر البشري الأخلاقي الذي ينظم الحياة وينشئ الحضارة التي تنصف الإنسان وتكرمه هو إنتاج مبهر لكنه هش ويحتاج لمن يصونه بلا هوادة. وهذا ما نراه في دول العالم الأول التي ينعم فيها الإنسان بمستوى يحسد عليه من رفاه العيش وحرية الفكر، فهناك إدراك عام لديهم بحضارتهم، أما علماؤهم ومفكروهم فيدركون أن انحدار المنظومة التي قامت عليها الحضارة هو أمر تلقائي وهذا ما يدفعهم للعمل المؤسساتي الواعي من وقف يد الهدم، لذا لا تقبل مؤسسات العمل المدني أو مؤسسات الدولة المساس بمكتسبات الحرية والمساواة وحقوق الفرد وسلطة القانون وتحفظها بعمل منظم وواع دؤوب. فسلطة الإعلام مثلا فوق سلطة الأشخاص وقوة الفرد فوق قدرة المناصب.
إن إدراكنا أن معطيات الحياة التي نحبها والتي تمنحنا الرفاهية والسعادة أفرادا وجماعات تنازعنا فيها الحياة نزاعا حثيثا ويتربص بها معول الهدم يدفعنا للتفكير بوعي والعمل بجهد للحفاظ عليها وتنميتها.