واحدة من غرائبيات الحالة السعودية تتمثل في وجود تيارين "فكريين" متصارعين. أحدهما يسمي نفسه بالإسلامي، والآخر حائر بين مسميات شتى أُلصقت به عبر السنين: فتارة هو تغريبي، وقبلها ليبرالي، ومن قبلُ علماني وحداثي. والغرائبية مردها إلى أن كل تلك العبارات مجازية خاوية من القيمة. فالتيارات لا تحمل فكراً يعتد به. الإسلامي منها يكاد يكون معنياً حصراً بإشكاليات المرأة: عباءتها واختلاطها. أما التغريبيون فهم نفس الحداثيين الذين هم نفس العلمانيين ممن هم في النهاية مواطنون لا يودهم الإسلاميون.. ولا يودون الإسلاميين!

وبين فترة وأخرى تنفجر قنبلة إعلامية حين يصرّح نجم ساطع من هذا التيار أو ذاك بتصريح ناري ضد الفريق الآخر. فينشغل به الناس وتكتب عنه الصحف، ويسألك سائل: ما رأيك فيما يجري؟ ومع أي الفريقين أنت؟ أنا -يا رعاكم الله- مع أن يحترم المرء نفسه ويترفع عن مثل هذه المهازل!

الهوس بالاستقطاب التياري وصل حد الاتهام بالخيانة، والقدح في الوطنية. وهذه لعمري تهمة مرعبة وتتطلب أقصى درجات التدخل الحقوقي والمساءلة القضائية. لكن فلنغض الطرف عن تلك الباقعة ولنتأمل في الصورة العامة: ماذا يعني أن يصعد خطيب على المنبر، في هذا الوقت تحديدا، ويتهم كتاب الصحف بهذه الصحيفة أو تلك بأنهم خونة ومجندون من الخارج؟ وما معنى أن يكتب كاتب بجريدة -في المقابل- أن الخطباء بمسجد كذا أو جامع كيت هم إرهابيون ظلاميون أو نفعيون؟ هل كُتب على مجتمعنا أن ينقسم لشريحتين: الكتّاب والخطباء؟ المطاوعة والحليقون؟ هل هو السلم الجديد في التطور الفكري والاجتماعي البشري بعد البروليتاليا والبورجواز؟ أين أنت يا كانط؟ وأين هيغل وابن خلدون ليشهدوا هذه النقلة النوعية في الخطاب التنويري الإنساني عندنا؟.. يا لخيبتنا المريرة!

إن الذي يقوم به البعض في كلا التيارين مخزٍ ومعيب. وشحن مشاعر العامة والمتلقين بهذا الشكل المفضوح ليس له قيمة إلا استقطاب الناس وحشدهم خلف هذا التيارأو ذاك لأسباب لا تمت للخيرية بصلة.

صحيح أن هناك الكثير من البسطاء الذين لا يدركون تفاصيل الطبخة، ولا يسعهم أن يعيشوا بدون سقف تصنيفي يأنسون لظله، فيكفيهم أن يصيح خطيب ما من على المنبر بكلمتين.. أو "يصكّهم" كاتب بعبارتين متقعرتين كي يصنفوا أنفسهم مع هذا التيارأو ذاك؛ لكنّ هناك أيضاً متلقين أذكياء يربطون بين الأحداث ومجاريها ومحيطاتها. هناك أولئك الذين لن يفوتهم كم هو مغرق في السخف والخواء استخدام أسلوب التنميط والتعميم على عواهنه لمجرد "الغلط" على الطرف المخالف.. ولأجل الثأر منه.. على أساس أن الأيام دول.. وأن البادئ أظلم. وهذا مبدأ مفهوم في خصومات الصبية في الشوارع والضُرر في البيوت. أما على مستوى "التيارات الفكرية"، إن وجدت، فذاك هو تعريف الخواء!

إن الذي يحب وطنه حقاً.. والذي يسعى لإثبات ولائه للدولة وللأمة، لا يُقدم على شق الصف وتفريق الجماعة بنشر خطاب التخوين وهلوسات نظرية المؤامرة. والذي يزعم حب الوطن والولاء لقيادته صادقاً، فحري به أن يترفع عن خطاب الابتذال، والتسويق عياناً، واحتكار معاني الشرف والتضحية.. وهذه كلمات نوجهها لكل من تعنيه.. مهما كان انتماؤه.

على اليوتيوب هناك تسجيلات لملتحين في أوضاع مشينة. وأستطيع أن أتحفكم بكذا قصة عن تجار عقار وموردي خضار وأصحاب محطات وقود أشرار غارقين في الفساد والمحسوبية وخيانة الأمانة. لكن هل يحق لي أن أكتب أن كل "المطاوعة" في الأصل مدّعو صلاح؟! وهل ننتظر غداً من إمام مسجد حارتنا أن يخطب متهماً العقاريين وموردي الخضار بأنهم فاسدون وخونة ويديرون على الأمة الدوائر؟! حقيق بمثل هذا أن يسخر منه المصلّون ويهجروا مسجده. مثلما هو حقيق بكل كاتب وكل متعالم متثاقف تخويني متلوّن أن يعرف أنه مكشوف. وللاثنين نقول إن الاستقطاب الفارغ الذي تمارسونه ممجوج ومرفوض. وإن ركوب الموجة واهتبال فرصة الكرّ بعد الكُمون ليس إلا أسلوب من تحركهم المصالح. فأي وطنية؟ وأي ولاء؟.