تسود قناعة لدى الشعوب الفقيرة أن سياسات الدول الغنية متآمرة ومسؤولة عن فقرهم. ويعود شيوع هذه القناعة إلى أسباب مختلفة منها تعمّد الأنظمة السياسية ترويج هذه القناعة واستخدامها كشماعة لإخفاقاتها التنموية، وصعوبة الفصل بين التاريخ الاستعماري للدول الغنية وبين سياساتها الحالية، وكذلك تحالف تلك الدول الغنية طويلاً مع أنظمة فاسدة تمتصُّ خيرات الشعوب.

وفي الحقيقة إنها قناعةٌ تحمل نقاطاً وجيهة بقدر ما تحمله من أوهام شعبية. ورغم شيوع هذه القناعة المتوجّسة من سياسات الدول الغنية إلا أنه، من نافذة مستقبلية، تبدو هذه القناعة في طريقها للزوال، وذلك ليس تغيّراً في نيّات القوم بقدر ما هو تغيّرٌ في ظروف السوق. ف التنافس بين الأمم، مرفوداً بالتكنولوجيا، رفع القدرات الإنتاجية لدول كثيرة فأصبح أكثرها قادراً على الإنتاج شاءت الدول الغنية أو أبت، ولكن التنافس في ظروف السوق الحالية ليس في الإنتاج بقدر ما هو في التسويق. وبهذا، لا يعود في مصلحة الدول المنتجة، غنية كانت أو فقيرة، أن يتهافت اقتصادُ منافسيها لأن ذلك - وإن منحهم احتكاراً إنتاجياً - فإنه يحرمهم من أسواق استهلاكية عديدة.

تنافس الدول اقتصادياً لا يختلف عما يحدث بين تاجرين في سوق. فكل دولة تسعى لتعظيم حصتها السوقية بأحد طريقين: الاستيلاء على حصص المنافسين أو توسيع نطاق السوق. وقد سلكت الدول المتنافسة كليهما لتخلص إلى أن الأول أكثر وعورة. فالاستيلاء على حصص الدول الأخرى - بتنافس مشروع - ليس سهلاً. وليس أدلّ على ذلك من الطريق الشائك الذي سلكته صناعة السيارات اليابانية قرابة عقودٍ ثلاثة حتى تمكنت أخيراً من انتزاع سيادة هذه السوق من نظيرتها الأميركية. صحيحٌ أن اليابان حققت ما سعت إليه منذ البداية ولكن نجاحها ذاك تطلب وقتاً وجهداً يصعب أن تتحملهما دولة غير اليابان، ولاسيما الدول الصغيرة ذات الموارد المحدودة والاقتصاد الهشّ، ولاسيما أيضاً أن الفشل في ذلك يعني ضربة موجعة لهذه الدولة، مثل فشل إندونيسيا في انتزاع سوق الإلكترونيات من النمور السبعة وفشل زامبيا في انتزاع سوق زراعة القطن من مصر وتركيا.

ومع ازدياد عدد اللاعبين الكبار في العالم أصبح (توسيع نطاق السوق) هدفاً يتفق عليه الجميع. فالسوق الذي يتنافس فيه المتنافسون اليوم ليس إلا ثلث العالم، بينما يقبع ثلثاه الآخران تحت خط القدرة على الاستهلاك وبالتالي خارج السوق. هذا يجعل من البدهيّ أن تفكر الدول المنتجة: ماذا عن الثلثين الآخرين؟ ولماذا هما خارج السوق؟

إن انخفاض القدرة الاستهلاكية في ثلثي العالم يرجع لعوامل عديدة أهمها على الإطلاق هو الفساد السياسي والاقتصادي. ثمة شعوب كثيرة تعيش تحت خط الفقر رغم تربُّعها على ثروات طبيعية هائلة والسبب يكمن في تحكم فئة فاسدة في قوت البلاد. وفي العقود السابقة، كانت الدول الغنية قادرة على عقد صفقات مع هذه الأنظمة الفاسدة تكون معها مستفيدة من بقائها في السلطة إلا أن ظروف السوق تغيّرت ولم تعد الدول الغنية قادرة على عقد تحالفات من هذا النوع لعدة أسباب منها: المعارضة الأخلاقية داخل الدول الغنية نفسها ضد تورط بلادها في تحالفات قذرة، وأيضاً صعوبة الاعتماد على مثل هذه الأنظمة الفاسدة في تحالفات طويلة المدى، إما لأنها معرضة للسقوط يوماً ما وإما لأنها فاسدة بطبعها ويمكن أن تنقل بيادقها إلى رقعة أخرى في أي وقت. والأهم من ذلك كله، أن هذه التحالفات لم تعد مفيدة أصلاً للدول التي تبحث عن مستهلكين، فليس من المجدي أن يكون النظام حليفاً ومستعداً للتعاون إذا كان الشعب فقيراً وغير قادر على الاستهلاك.

من أجل ذلك يسعى سياسيو العالم إلى استغلال قواهم السياسية في تحرير الشعوب من أي سبب يحول بينها وبين رخائها الاستهلاكي، ربما ليس حباً في تلك الشعوب بقدر ما هو طمع في تلك الجيوب. في الحالتين، اجتمعت المصالح العالمية - في صدفة اقتصادية مباركة - على أن (الحفاظ) على التنمية في الدول الغنية يشترط (البدء) في تنمية الدول الفقيرة. فليس في مصلحة أحد أن يكون تاجراً في سوق من الفقراء. وفي السابق، كانت العقبة الأولى أمام توسيع نطاق السوق هي الشيوعية التي تمنع شعوبها بموجب القانون أحياناً من استهلاك أي منتج أجنبيّ. وقد استمر هذا السوق المعطّل قائماً لعقود قبل أن تبدأ إرهاصات سقوطه مع مشروع الإصلاح الاقتصادي الصيني عام 1973، والصداقة السياسية بين ريجان وجورباتشوف عام 1985، وسقوط جدار برلين عام 1989. وقد صاحب انهيار الشيوعية انتعاش عالميّ لا تخطئه العين، وتجاوز ملايين من البشر خط الفقر لأول مرة في شرق أوروبا وأرياف الصين وأصقاع روسيا. وخطت البشرية بذلك خطوة ممتازة نحو الأمام. أما اليوم فالعقبة الثانية أمام توسيع نطاق السوق هي تلك الشعوب التي ترزح تحت أنظمة سياسية فاسدة تمنعها من النمو الاقتصادي وتجاوز خطوط الفقر، وبالتالي، فمن البدهيّ أن يكون تحرير هذه الشعوب من أولويات الدول المنتجة حتى تتمكن من توسيع قاعدة زبائنها. والدراسات تعزو مسؤولية إنقاذ قطاع السياحة الأوروبي من السقوط إلى السيّاح الصينيين الذين أصبحوا لأول مرة منذ أجيال قادرين على الاستهلاك السياحي. ولا شك أن مليار مستهلكٍ محتمل في قارة أفريقيا وحدها يكفي لإنعاش اقتصاد الشرق الأوسط بأكمله، ونصف مليار مستهلكٍ محتمل في أميركا الجنوبية يكفي لإنعاش اقتصادات شرق آسيا، بينما يعتمد سوق الطاقة الأوروبي حالياً بشكل كبير على الإمدادات الروسية من الغاز، والتي كانت لأمد طويل مكرّسة لتغذية الجيش الأحمر بلا جدوى.

ربما كان من مصلحة أميركا امتصاص نفط العراق بثمن بخس ولكن الأنفع لها أن يكون ثلاثون مليوناً من سكانه قادرين على شراء سيارات أميركية، تماماً مثلما هو أنفع للصين أن يشتري أربعة وعشرون مليون كوري شماليّ بضائع صينية من أن تبيع لحكومتهم تقنيات وأسلحة عسكرية. ولعل إيطاليا وإسبانيا تفضّلان أن يفد إليها سوّاحٌ أفريقيون أغنياء بدلاً من أن يتسللوا إلى شواطئهما وهم فقراء. هذه هي أجندات سياسيي العالم الجديدة كما تتنبأ بها رؤية اقتصادية بحتة قد تستثنى منها حالات إقليمية خاصة وظروف مرحلية مؤقتة، ولكن قوانين السوق - في آخر المطاف - ستحتل الأجندة السياسية حتماً، سواءً اقتنع بها القادة أو فرضتها عليهم الشعوب.