تحدث أحد القضاة السابقين في ديوان المظالم في إحدى مقالاته الصحفية منتقداً التناول الإعلامي لقضايا الفساد قائلاً ما نصه: ".. إن الأسلوب الذي سارت عليه بعض الصحف خصوصاً في أسلوب تناولها ونشرها لبعض القضايا التي لا تعدو كونها كما يقول الأصوليون (قضايا أعيان) أو نشر تفاصيل تقارير بعض الأجهزة الرقابية الحكومية التي أصبحت تتسابق فيما بينها لإمداد الصحف بها ونشرها دون مراعاة لما يترتب على ذلك من آثار ضارة سلبية على سمعة الوطن وطمأنينة المواطن، وهي أقرب ما تكون إلى الإرجاف في المدينة".
وذكر أيضاً في معرض حديثه: ".. إنني أنطلق من خبرة قضائية سابقة في ديوان المظالم حيث كانت ترد الآف القضايا المحالة من هيئة الرقابة والتحقيق، متضمنة قرارات اتهام لكثير من الموظفين وغيرهم في جرائم رشوة وتزوير واستغلال نفوذ، وإساءة استعمال سلطة ونحوها من الجرائم المالية والإدارية، ثم تنتهي نسبة كبيرة من ذلك بأحكام قضائية بعدم ثبوت تلك التهم".
ومما سبق فإني في الحقيقة أخالف القاضي الرأي فيما ذكره بأن نشر التقارير الرقابية في الوسائل الإعلامية يعد نوعاً من الإرجاف في المدينة، وذلك لسبب بسيط وهو أن ذلك يخالف أبسط مبادئ ومعايير الشفافية التي أقرتها المنظمات الدولية المهنية المختصة بهذا الشأن وما ذكره الكاتب يعد أحد المعوقات الرئيسية لتطبيق هذا المبدأ، بل إن نشر التقارير تعتبر من أحد مقومات المساءلة العامة للجهات الحكومية، كما أنها تساعد كثيراً في زيادة ثقة المواطنين في الأعمال الحكومية بعكس ما ذكره القاضي، فحين يعلم المواطن بأن هناك رقابة ومساءلة وكشفا للتعاملات غير المشروعة، حينها سوف يشعر بالارتياح ويتعامل باطمئنان مع الجهات الحكومية، كما أن الوسائل الإعلامية تعد قناة رئيسية لإبقاء المواطنين على علم بما يدور في الجهات الحكومية، والذي بدوره سيخلق الضغط على المسؤولين في تأدية الأعمال المطلوبة منهم على أكمل وجه كما أن ذلك يؤدي إلى تعزيز مساءلة السلطة التنفيذية، وزيادة الشفافية وتحسين إدارة الأموال العامة.
وأزيد على ذلك أيضاً أن غالبية المسؤولين في جميع الجهات الحكومية يميلون إلى الاهتمام بوسائل الإعلام، وخصوصاً إذا ارتبطت بنودها بدوائرهم وجهاتهم، فهناك جدل دائم بين الجهات الرقابية والجهات الحكومية حول تفسير الأنظمة والقوانين وتأويلها، مما يؤدي إلى تعطيل وتحجيم التوصيات والملاحظات الرقابية وعدم تفعيلها، ولكن بمجرد نشرها في الإعلام، تسارع هذه الجهات إلى معالجتها وتحسين صورتها أمام المواطنين والسلطة التشريعية في البلاد، هذا بالإضافة إلى أن نشر الملاحظات الرقابية تعد نوعاً من الرقابة على الأجهزة الرقابية نفسها، فضلاً في أنها وسيلة مساعدة لنقل رسالتها إلى الجميع وفهم دورها بشكل سليم.
وبالتالي فإن إيجاد معلومات جيدة لوسائل الإعلام، سوف يقدم تقريراً دقيقاً عن قضايا الرقابة وقضايا الأعمال الحكومية، ويسهل من رفع مستوى الوعي بأهمية دور الأجهزة الرقابية في ضمان المساءلة العامة، وسينمو الاهتمام بالعمل والجهود التي تبذلها هذه الأجهزة بين عامة الناس.
أما بخصوص ما ذكره الكاتب بأن قضايا الفساد لم تصل إلى حد الظاهرة وأن ما ترفعه هيئة الرقابة والتحقيق من قضايا التزوير وإساءة استعمال السلطة لم تثبت بنسبة كبيرة منها، وعلى ضوء هذا الكلام أقول: إن من أهم التحديات التي تواجه جهود مكافحة الفساد هي عدم وجود قياسات ومؤشرات إحصائية سواء لقياس الفساد أو لقياس جهود مكافحته، وبالتالي لا نستطيع القول بوجود ظاهرة للفساد أو عدمه، وذلك لوجود عجز واضح في البيانات والإحصاءات ذات العلاقة بالفساد، وتكمن أسباب هذا العجز في أن جهود رصد وتحليل وقياس الفساد، تعتبر حديثة نسبياً، كما أن الأجهزة الرقابية تتعامل مع البيانات والمعلومات باعتبارها معلومات سرية لا يجب الإفصاح عنها، وإن أفصحت عن القليل منها يتم انتقادها كما رأينا آنفاً من هذا المقال.
وأما بخصوص القضايا غير المثبتة والمرفوعة من هيئة الرقابة والتحقيق كما يقول الكاتب، فهنا أضع عدة احتمالات، ألخصها فيما يلي:
• وجود خلل في عملية الضبطية القضائية وإجراءات التحقيق وعدم كفاية أدلة الإثبات المرفوعة لديوان المظالم.
• في أغلب ممارسات الفساد، وخاصة في المواقع العليا في الإدارة وأصحاب النفوذ، تحرص الأطراف المستفيدة الحفاظ على سرية وقائع العملية، تجنباً للمساءلة والعقاب، ونتيجة للسلطة الممنوحة لهم يقومون بشتى الوسائل بإخفاء الأدلة، أو التغيير المتعمد في المستندات الثبوتية، واستخدام شهادة الموظفين الآخرين في إنكار التهمة.
• وجود إشكاليات نظامية تتعلق بضعف الرقابة الداخلية داخل الجهة، بالإضافة إلى عدم وضوح المسؤوليات والصلاحيات مما يصعب التثبت من التهمة.
وبالطبع هناك عوامل أخرى غير ما ذكرناه ولكن العوامل السابقة مجتمعة قد تكون أحد الأسباب الرئيسية في عدم ثبوت قضايا الفساد المرفوعة إلى ديوان المظالم من قبل هيئة الرقابة والتحقيق، علماً بأن الكاتب لم يعط إحصائية واضحة لنسبة هذه القضايا، كما لا توجد جهة محايدة تزيد من موثوقية هذه البيانات.
وعلى كل حال فإننا في الوقت الحاضر وخاصةً بعد إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بحاجة ماسة إلى وجود مقاييس ومؤشرات موضوعية لقضايا الفساد، والتي منها المقاييس الإدراكية أو الانطباعية والتي في الغالب تقوم بأخذ آراء المواطنين بخصوص الفساد (والتي يستنكرها البعض للأسف)، بحيث يتم إخضاعها للبحث والتحليل والدراسة، ومن خلالها يتم تشخيص أوضاع الفساد ومقارنتها مؤسسياً وقطاعياً، مع وضع البرامج الإصلاحية اللازمة لذلك، وعلى الجهات المعنية بهذه القضايا مثل الأجهزة الرقابية والمحاكم وديوان المظالم تزويد الهيئة بكافة البيانات والمعلومات والقضايا المتعلقة بالفساد مع الأخذ في الاعتبار الدور الهام للوسائل الإعلامية باعتبارها ركنا أساسيا في المنظومة الرقابية ودورها في مكافحة الفساد.