محمد يقرأ وسارة تطبخ، وصورة توضح سارة في المطبخ تعد كوباً من الشاي لأخيها بينما هو يقرأ في غرفة الجلوس، هذا مختصر مفهوم العلاقة "الإنسانية" في ثقافتنا الخاصة ومناهجنا التي خرّجت الوزير والمهندس والمعلم والطبيب بكل مراحلها، والتي يعاد استيلادها في واقعنا وإن اختلفت التفاصيل، وكلما كبرت الفتاة والشاب اتسع هامش التبعية للمرأة والملكية للرجل لتقسم الطرفين إلى تابع ومتبوع، ومحتقر ومعتبر، وناقص وكامل!

أثناء الموقف التاريخي الذي قابل به معالي الوزير"الفايز" المهندسين في ممر الوزارة استدعت الصورة التي أمامه الصورة النمطية ذات الخصوصية والتي تنسب كل أمر يفتقد للعقلانية للمرأة وكل تعقل لأخيها، ولا غرابة؛ فالوزير في النهاية جزء من نسيج مجتمع الخصوصية، لا أستنكر استدعاء الصورة لأنه يدخل ضمن إفراز اللاوعي للوعي والدهشة منه ليس هنا مكانها، ما يُستنكر فعلاً هو هل الفعل الذي قامت به المرأة الموظفة في قطاع محو الأمية وما تبعه من قطاعات من تجمهر للمطالبة بحقوقهن يدخل ضمن معيار النقص أم الكمال؟ بمعنى أهو تصرّف يمدح به فاعله، أم مذمة؟

ما لم يفطن وزير الخدمة المدنية إليه- حتى بعد أن طالبت النساء بحقوقهن الوظيفية وتجمعن لأجل إعلان فرض المرحلة الحقوقية- أن الثقافة المتكلسة ضد المرأة ووعيها بحقوقها تغيرت، وبات يتعلم منها الرجال، والدليل امتداد ثقافة المطالبة بالحقوق وإلقاء ظلالها على فئات وقطاعات أخرى "المهندسون مثلاً".

لكنه قرر أن تكون مذمة ومنقصة في تكراره استيلاد الصورة النمطية لمناهجنا التعليمية ومنهجنا في الحياة.

هذه الثقافة لا أستنكرها من الوزير، لكني أستغرب ضربها في الجذور، وكيف تترى بتوالي الأجيال، ليكون أول رد من شباب الهندسة هو نفي "التهمة" المنقّصة لهم "نحن لسنا حريم"، متجاهلين أن "الحريم" هن من علمهم درسا لا يقدّره إلا ذوو الألباب "المطالبة بالحقوق"، ولم يسائلوا وعيهم وإدراكهم بماذا يوصف هذا التصرف؟ ومن أول من قام به؟ بالتالي أهو شاهد على النقص أم الكمال؟

لنتابع مشهد التحول في تصريحات الفايز لنستشعر سداد الحكمة التي نرددها "لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك" وطبعا ما يصدق على اللسان يصدق على التصرف إلا أن اللسان الترجمان البادئ للتصرف اللاحق، فخُصّ بالذكر.

في لقاء الوزير بالشباب قال: "من الأفضل الرجوع إلى جهاتكم الرسمية والرفع بالطلب منها، أفضل من تجمعكم مثل النساء، ليرد المهندسون الثائرون على ما اعتبروه "تهمة": لسنا حريم، بل نطالب بحقوقنا" ليجيب: إن الكادر عرض على مجلس الخدمة، ويدرس حالياً لدى اللجنة الفنية "ويصير خير". وجملة يصير خير تعني اطلب الله، وكل السعوديين بلا استثناء يعلمون أنها جملة للإيحاء بالزمن الذي لا يأتي غالباً، بعدها أراد المتجمعون أن يسلموا الوزير ورقة فيها مطالبهم، فقال لهم "قطعوها" وانصرف عنهم. وطبعا قطّعوها تردف بل وتؤكد معنى قوله "يصير خير". وعندما هاجت الدنيا وماجت بموقفه تراجع قليلا ليجعل وزارته مشاركة في مسؤوليتها تجاه عدم تطبيق الكادر الوظيفي المستحق للمهندسين، فـ "مطالب المهندسين لا تدخل في اختصاص وزارته "وحدها"، فهي جهة تنفيذيّة لما يصدر من الجهة التشريعية (مجلس الخدمة المدنية).

ثم عندما ضاق بدائرة المعرفة الحقوقية للجميع وحشر بأسئلة الصحافة قال في تصريح "للحياة" إن مطالب المهندسين باعتماد كادرهم الوظيفي "محل العناية والاهتمام"، وأنهم (المهندسون) "يطالبون باعتماد كادر وظيفي لهم، وهو حقهم وأقدّر لهم مطلبهم، إلا أنهم كانوا يتحدّثون بطريقة يصعب فهمها".

وكأنهم وجدوا طاولة حوار وقلبوها على ظهرها مختارين!

نصدم دوماً بتصرف وزير هنا وسفير هناك يقابل المواطنين بعنجهية تتعالى على مسؤوليات عمله والتي ألزمها خدمة المواطن، وكأن مسمى وزير لا يفارق قبلة الرأس ولبس البشت؟! كم أود لو وضع نظام يمنع الوزير من ارتداء البشت في مقر الوزارة.

والآن لأنقلكم لمسؤوليات وزارة الخدمة المدنية التي يرأس الفايز هرمها ويحمل حقيبتها كاملة، فقد أنشئت عام1420 لتتولى الإشراف على شؤون الخدمة المدنية في الوزارات والمصالح الحكومية العامة والأجهزة ذوات الشخصية المعنوية، وتعنى باقتراح أنظمة الخدمة المدنية ومراقبة تنفيذها، علاوة على إجراء الدراسات والبحوث في مجال الخدمة المدنية والعمل على تطويرها، ورفع كفاءة العاملين بها، "ووضع القواعد والإجراءات الخاصة بشغل الوظائف وتصنيفها واقتراح الرواتب والأجور والبدلات والمكافآت والتعويضات والمشاركة في دراسة الوظائف المطلوب إحداثها للتأكد من مطابقتها مع قواعد تصنيف الوظائف"، والتعاون مع إدارات شؤون الموظفين في الجهات الحكومية للوصول إلى أفضل الطرق لتنفيذ الأنظمة واللوائح والقرارات المتعلقة بشؤون الموظفين، إضافة إلى فحص تظلمات الموظفين المحالة إليها.

كل هذا يمثل صميم عمل وزارة الخدمة المدنية، فكيف ادعى الفايز أن مطالب الشباب ليست من اختصاص وزارته، لا أعتقد أنه جهلاً منه، لكنه التسويف البيروقراطي الذي يهرب إليه المسؤول عندما يحشر في زاوية ضيقة تطالبه بالحقوق والنظام، فالوزير هو هرم اللجان والمجالس التابعة له، وتعطيل الكوادر من صميم مسؤوليته، بل ويُطالب بالتجديد والتغيير والتحديث المطلوب.

موقف الوزير الفايز حل الشفرات التي تساءلت عنها في مقالي عن التقاعد المعتق، وها نحن نعيد المطالب لتجديد نظام الاستحقاقات والكوادر الوظيفية وتجديد نظام التقاعد، ونظام الإجازات الذي سبق أن طالبت بالالتفات لفجاجته في مقالي المعنون بـ "التعميم الأحمق" إلا أنه لا حياة لمن تنادي!

دماء الشباب من بنين وبنات تنتظر التوظيف في هذه الوزارة علهم يعيدون لها ماء الحياة، فهل من مجيب!