شباب العرب لا يريدون مدناً فاضلة صُنعت في المختبر، ولها رائحة مُعقمة، وتتناول الأدوية بانتظام؛ بل يحلمون بمدن خالية من الفساد والمفسدين، ومباضع الجراحين، ووصايا الذين يفقهون للذين ـ بزعمهم ـ لا يفقهون. مدينة/ حلم؛ لم يجلس حاكمها يوماً على ظهر دبابة أجنبية، ولم يأمر بقطع رأس مواطن لم يبتسم في وجهه؛ لأن ظروفه المعيشية أجبرته على العبوس! الشباب يتطلعون اليوم لمدن جديدة وواعدة؛ يلمسون فيها حقيقة التمدن والحضارة والعدالة التي يشاهدونها ويقرؤون عنها لدى أقرانهم في العالم، وهي مدن يعتقد الشباب فعلاً أنها تمارس وجودها الكامل بسلام ورغد؛ لأنها لا تعاني من الفراغ العاطفي، ولا تحار كثيراً أمام الجديد، ولا تحتاج للتنفس الصناعي إن جاء من آخر الدنيا كتاب يثير الأسئلة، أو يختلف مع فتوحات السيد الحاكم. مدن واثقة تنتمي إلى المستقبل بكل ما فيه؛ بشكل واضح وصريح دون حفر أو مطبات، أو تهويمات وسوسة، وفي خيالهم مئات المدن/ النماذج التي تستهويهم بتواصلها الحميد مع العالم بلا أدنى عقد أو مركبات نقص، وهم يرونها يومياً تفتح ذراعيها للشمس والهواء والحرية؛ إذ ليس من أولوياتها صناعة حزام ناسف، أو قنبلة يدوية، أو طائفية بغيضة، أو رأي فقهي متوحش يُسمم العباد والبلاد. مدن الشباب المعاصر/ الحالم لكل الناس الذين يحبونها، والذين يقرؤون في عينيها أحضان الأمومة، وفي رغيفها قصائد العدالة، والمساواة، والدفء، وهي مدن لا تتميز بالسمنة المفرطة، ولا الدلال الفاحش، لأن أغنياءها يأكلون أكثر من نصيبهم، أو لأن قادراً اغتصب بيت صفيح من أسرة معدمة؛ ثم بنى فوقه قصراً لخليلة مستوردة جنحت له ذات مساء.. شباب العرب يحلمون بمدن مستنيرة تحيا تحت الشمس، ولا تقضي نصف عمرها على خط التماس، أو تنتظر توقيع سلام جماعي، ولا تتحول أجساد أهلها في كل وقت إلى طاولة تفاوض دون شروط مسبقة، وستكون رائعة بالفعل إن لم يكن لها مخبرون، وأجهزة تحسس عن بعد؛ تبحث في آذان المواطنين عن موسيقى محرمة، أو رأي عابر، أو تفتش بشكل مفاجئ في جيوبهم عما تبقى من حدود 67م.. مدن الشباب الجدد تختلف تماماً عن مدن الكبار المختبرية، ولها اهتماماتها المواكبة للعصر والمستقبل، ومع ذلك فهي لن تعادي المصلحين بالتأكيد، ولا التنويريين، لكنها في المقابل تثق في نفسها فتترك فسحة للجدل، وتطرح الأسئلة بحرية؛ دون أن يعكر مزاجها خصومة رأي، أو خلاف على أولوية، وهذه المدن الخيالية ـ حتى الآن ـ التي يحلم بها الشباب العرب ليست مستحيلة؛ بل ربما تكون متوفرة بشكل كبير وهي تحتاج لإرادة فاعلة فقط.. العالم اليوم هو غرفة نوم وفضائية وجهاز حاسوب. شمس وهواء وحرية، وبالتالي فأي نموذج جميل يتحول إلى حلم في لحظة، ومع تكاثر تلك النماذج الشيقة التي يراها الشباب العرب من حولهم لا في بلادهم، ومع الضغط الداخلي، وعصيان النموذج المحلي عن التطور والإبداع يمكن أن تحصل ثورات جديدة، وبأدوات بسيطة جداً: جهاز حاسوب، ومجموعة أصدقاء، ميدان واسع، وهدف مشترك، وهي ثورات تحلم بمحاكاة نموذج. صحيح أن بعض النماذج غير متفق عليها ولأسباب مختلفة، لكن الصحيح أيضاً أن من حق كل جيل أن يكون له نموذجه الخاص، ومن حقه كذلك أن تكون له فضيلة التجربة على الأقل، المهم أن يمنح فرصة لمغادرة المختبر! والخطأ الكبير وربما القاتل أيضاً؛ ألا يعترف الكبار بأحلام الصغار في عصر الثورات العربية، وهنا تتكرر المأساة وإن بصور مختلفة، ولذلك فمن يريد الحكم اليوم في بلاد الثورات ـ تحديداً ـ عليه أن يعترف أولاً بفضل الشباب الذين قاموا بها؛ لا أن ينساهم تحت شهوة الكرسي، وإلا فسيعيدونه إلى الشارع الذي جاء منه، وسيبحثون عن غيره بيسر وسهولة بعد أن انكسر التابو، وهذه إحدى مزايا الثورات الشابة؛ فالمدن القادمة ستسكنها عقول أخرى غير منقادة لأحد، ولن تسمح لأي من حكامها القادمين؛ أن يصدر فرماناً أبوياً كي يبقى به في الحكم إلى الأبد، أو يعتقل به البلابل في عشها، ويمنعها أن تغرد من الماء إلى الماء؛ كما فعل السابقون الطيبون! أغلب الشباب العرب يعيشون اليوم في مدن جامدة، ومجدولة المواعيد، والأمراض والعاهات. تفتقد النكهة، والحلم، والحرية. فالكبار وحدهم هم من يحسن التصرف، ويختار شكل السرير، ولون الوسادة، ونوعية المقهى، والموقف السياسي، وربما أيضاً العروس والسيارة.. فكم مدينة عربية تعتقدون أنها تناسبهم وفقاً لمواصفات المختبر؟!