أخذت الاتهامات التشهيرية بالتخوين في الآونة الأخيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بعداً خطيراً وخصوصاً على الصعيد الثقافي والدعوي كواحدة من الأساليب التهويلية التي يستخدمها البعض في مواجهة الآخر، تدخل في الحرب النفسية أو ما يسمى حرب الأعصاب، والتي تستهدف التأثير على معنوياته في محاولة لثنيه عن آرائه وتأليب الرأي العام ضده وعزله عن التأثير، فهذا داعية يتحدث من منبره عن فضائل الدين والأخلاق الفاضلة ولكنه يعشق التقليعات الخطابية فتجده يستخدم في خطابه أساليب تتوتر معها أعصابك وتشعر بالانقباض من كلماته التي تصيبك بحالة من الهذيان، حتى ولو وافقته الرأي في جزئيات حديثه لكن الشرر والسموم تتطاير من كلماته بدون تفكير لأية عواقب لشطحاته وتهجماته، فتراه فاقد اللياقة يقتل قضيته ولا يرى في الكون مخلصا ولا نزيها ولا مثقفا ولا وطنيا ولا شجاعا سواه، لا يسلم أحد من لسانه يتهم الكل بتهم مجانية جاهزة، يصر على تخوين الآخر واستفزازه لا يعرف القراءة بتمعن لأنه لا يفهم ما يقرأ، أو أنه يقرأ بدون تركيز فيقع صيدا سهلا في شباكه التي ينصبها للآخرين، كل همه تتبع الغير وكيل التهم بأرخص الكلام يسرد اللامعقول وكل ما هو خارج الإدراك ليربطها بالوقائع والأحداث بطريقة مقلوبة في محاولة منه للانتقام والتشفي.

وفي مهزلة ثقافية أخرى، تجد ـ مثلا ـ كاتبة مثقفة ليبرالية تحررية يسارية تكسر التابوهات وتتصدر قائمة المثقفات في هذه الجهة وإذا بها وبدون مقدمات وسابق إنذار تحلق بشكل صاروخي وكأنها "سوبرمان" إلى أقصى اليمين لتدافع عن فريقها الجديد وترمي جام غضبها على اليسار الذي كانت تتصدره قبل سويعات، وهناك نماذج أخرى من المثقفين ولكن يكفي ما ذكرت.. حقيقة أنه أمر يدعو للاستغراب! مثقف يدعي حبه للتنوع والحرية وهو رجعي متخلف لا تهمه إلا أنانيته ونرجسيته التي يتلون بها حسب المصالح، فهو يسعى للقيام بأي شيء في سبيل وصوله إلى هدفه الشخصي لتتحول الثقافة إلى تجارة والجهل إلى ثقافة ليقفز إلى واجهة الصدارة الثقافية بما يمتلك من علاقات، حقاً إنه عصر الديموقراطية الفوضوية.

نعم، إنها عقلية مصابة بداء التسطيح والهامشية والالتواء والتي تنظر إلى الأمور من بعد واحد، هذه العقلية السطحية التي لا تقرأ جيداَ ما بين السطور، إنما تقرأ بسطحية الألفاظ ولا تنظر إلى ربط المعاني النافذة في العمق، عقلية تتجاهل القراءة الرمزية والتي تثير الإنسان وتدفعه إلى التفكير والتأمل في أكثر من زاوية والتي تفتح له آفاقا أوسع من الأفكار الجديدة، عقلية يغيب عنها التفكير الشمولي والمتكامل للقضايا ويحضر عندها التحديق الكلي في جزئية صغيرة ليتم التوغل فيها لتنتج في النهاية عقلية التطرف ولغة العنف، إلى أن يتم التفنن في وضع الآخر المخالف في قائمة سوداء من الضلال والتخوين، والأدهى والأمر بعد كل ذلك يبررون أنفسهم بأنهم وسطيون وإذا سلمنا بوسطيتهم هذه، لن نتنازل عن كونهم متطرفين، نعم إنه (التطرف الوسطي) فالتطرف هو التطرف يميني أو يساري أو حتى وسطي.

المشكلة الحقيقية التي يعيشها هؤلاء هو التناقض والازدواجية الحادة والمروعة بين أفكارهم وبين كل السنن البشرية والكونية، هذه التناقضات في الشخصية هي التي تحدث عنها علي الوردي في كتاباته، إنها الازدواجية بين الفكر والممارسة فمن الطبيعي أنّ دعاة التغيير في المجتمع ينطلقون من مجموعة من الأفكار والقيم والمثل التي يطرحونها، مدّعين أنّ بإمكانها تغيير الوضع الاجتماعي إلى ما هو أحسن لكنّ المشكلة أنّ الأمور في الواقع تتحرك بالاتجاه السلبي وتسير بالتدريج ناحية قدر من الازدواجية بين المثل والقيم المنشودة وبين الواقع الذي تجري ممارسته ميدانياً. إن السبب في ذلك أنّ دعاة التغيير ليسوا مؤهَّلين للارتفاع إلى مستوى القيم التي ينادون بها ويريدون تغيير المجتمع في ضوئها، فلكي يستروا عورتهم هذه تظهر هذه الازدواجية بين النظرية والتطبيق.

ولعلنا رأينا العديد من الذين طالما نادوا على الدوام بالتعدّدية وحرية الرأي يصابون بالهستيريا من تعرّضهم للنقد، ويتعاطون مع الرأي الآخر من موقع أحاديّ، ورأينا الكثير من منادي الديموقراطية لا يمارسونها، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى الاجتماعي، ولا حتى داخل مؤسّساتهم الثقافية والتربوية. ورأينا الكثير ممن يؤكد على منطق النقد البنّاء، ويكتب ويُنظر في هذا الاتجاه، لكنّه هو وأتباعه على أرض الواقع لا يعبّرون عن عشر هذا الطرح الذي يثيرونه، بل يستخدمون لغة حادة في مواجهة من يريد تطبيق أطروحتهم نفسها، إنّه شيء من النفاق على المجتمع، لا يبشر بالخير الكثير.

لعل هذا الأمر ليس فكريّاً بقدر ما هو تربويّ، فواحدة من أهمّ مشاكلنا أنّ بعض حركات التغيير في العالم العربي والإسلامي لم تتشرّب مقولاتها بوصفها جزءاً من المكوّن الذاتي للشخصيّة. وهذا معلم خطير ينذر بسوء، فعندما أطرح مقولة ما، ثم لا أربيها في داخلي، فمن الطبيعي أن تظهر حالة النفاق هذه، وتكون العلاقة معها علاقة عقليّة، وليست تربوية ونفسية وسلوكية.

ولعلّ هذا الأمر ارتد في بعض تجارب الوعي الإسلامي فنجد هوّةً بين خطاب النخبة وواقع الجماهير، فالناس في وادٍ وهم في وادٍ آخر، فقد يتّبعك الناس ويصفّقون لك، لكنّ هذا لا يعني أنّهم يتمثّلون أفكارك.

أقول أخيراً، إن المثقفين والدعاة هم الشريحة الواعية في المجتمع، فلديهم مسؤولية أخلاقية وواجب إنساني ووطني ولكن بعيدا عن تزييف الحقائق وبعيدا عن الانشداد للأهواء والنزاعات النفسية التي تجعل من الكتابة أو الخطابة وجها من وجوه الصراع والتخوين وتصفية الحسابات بدل أن تعكس واقع الخلل الذي تجب معالجته وإصلاحه.