يستطيع الكثير من السعوديين ـ من هم في متوسط العمر ـ أن يرصدوا حجم التحول ومقدار التغيير الذي حدث في واقعهم الاقتصادي وظروفهم المعيشية وتبدل نمط غذائهم واختلاف وسائل تنقلاتهم. فقد تبدلت الأحوال البسيطة غير المعقدة التي كان عليها غالبية الناس حين كانوا يتناولون وجبات محدودة معدة في البيوت بأيدي الأمهات والأخوات أو الجيران أو على أيدي طباخين محليين ـ في المناسبات ـ يستخدمون مواد محدودة متعارفا عليها ومكررة في كل حين ويبذلون الجهد في حركة التنقل على الأقدام داخل المدن والقرى سعيا للرزق. وليس خافيا على أحد اليوم انعكاس هذا التحول الكبير على المجتمع وعلى أذواق أفراده وأسلوب حياتهم، (فالنعمة) بادية على (المقدمات والمؤخرات والأطراف) مما أدى إلى ترهل الأجساد وتراخي البطون واتساع مساحة الملابس لتستر هضاب الشحوم وكثبان الأوزان.
وهذا التغير لم تقتصر نتائجه على المظاهر الخارجية للأجساد، للأسف، بل امتدت آثاره السلبية إلى الصحة العامة فظهرت أمراض ما كانت معروفة وانتشرت علل بين الشباب كانت ـ في الغالب ـ قاصرة على كبار السن مثل أمراض القلب والشرايين. وتراجعت أمراض كانت مرتبطة بتدني المعيشة ومستوى النظافة وقلة التعليم مثل الأمراض المعدية. ولم يعد الناس يخافون أو يقلقون من هذه الأمراض بعد أن أصبحت الأمراض غير المعدية المهدد الحقيقي لحياة الناس، إذ تشير بعض الإحصاءات إلى أنها في المجتمعات المتقدمة اقتصاديا وحضريا تسبب قرابة 60% من الوفيات، ولهذا أولتها المنظمات المحلية والدولية اهتمامها الكبير.
ووزارة الصحة السعودية، من خلال الإدارة العامة للأمراض غير المعدية، تتبنى برامج صحية لمواجهة أمراض باتت تشكل تحديا متناميا في مجتمعنا لتغير نمط حياته ونشاطه وتغذيته مثل: برنامج الفحص المبكر لحديثي الولادة، مشروع تاج الصحة، برنامج مكافحة السكري، برنامج القلب والأوعية الدموية، برنامج هشاشة العظام، برنامج الغذاء والنشاط البدني، برنامج مكافحة السرطان وبرنامج الزواج الصحي وغيرها من البرامج التي تستحق أن تكون موضع اهتمام كل أطياف المجتمع، وكل برنامج من هذه البرامج يستحق أن يكون موضوعا لمقال منفصل ولقاءات وحوارات متعددة، ولهذا سأقصر حديثي في هذه المساحة الضيقة على مشروع الزواج الصحي الذي يتداخل بشكل رئيسي مع عادات وتقاليد المجتمع، ومواجهته تتطلب تفهم الأسر والمقبلين على الزواج.
وفي لقاء عابر مع الدكتور محمد صعيدي، مدير عام الإدارة العامة للأمراض غير المعدية في وزارة الصحة، تكشفت لي حقائق يجهلها الكثيرون رغم جهود التوعية التي تتبناها الوزارة، واطلعت على الأدوار المهمة التي تقوم بها الإدارة في سبيل توعية المجتمع بمخاطر الأمراض غير المعدية، فالفحص الطبي قبل الزواج، مثلا، يمكنه أن يساعد على اكتشاف الأمراض المعدية وغير المعدية، وهذا يساعد على معالجة المعدية والوقاية من غير المعدية، ونشر الوعي بين أفراد المجتمع بمخاطرها. ومن الأمثلة الجيدة على أثر التوعية في مواجهة الأمراض غير المعدية برنامج الفحص قبل الزواج، فهذا المشروع حقق نجاحا كبيرا نتيجة لتفهم الناس لدوره في الوقاية من الأمراض الوراثية. ورغم أن نتائج الفحص في هذا البرنامج غير ملزمة ـ من الناحية القانونية ـ إلا أن الاسترشاد بها والالتزام بنتائجها شهد تطورا ملحوظا، ففي بداية المشروع كان الإقبال ضعيفا والالتزام بنتائجه قليلا جدا لكن الآن أصبح المتقدمون إلى الفحص ـ من الطرفين ـ يأتون وهم على قناعة بضرورة الالتزام بنتائجه حتى وإن عارضت ذلك عادات وتقاليد المجتمع، وليس هذا سوى نتيجة لوعي الناس بأهميته وتعاون الأسر والأولاد والبنات في هذا المجال وشعورهم بخطورته. والوراثة هي ببساطة: انتقال الصفات الوراثية من الأب والأم إلى الأبناء، بحيث يحمل كل طفل نصف الصفات الوراثية من الأب والنصف الآخر من الأم، والصفات المتحدث عنها هي الصفات الجسمانية (الطول ـ القصر ـ لون الشعر ـ لون البشرة ـ لون العينين ـ سمات الوجه).. وهذه الصفات تنتقل من خلال ما يعرف بالأشرطة الوراثية التي يرمز لها بالحروف (DNA)؛ وهي الأشرطة التي تحمل الصفات الوراثية (ويمكن أن تسمى بالشفرات الوراثية)، وتقول المعلومات الطبية إن كل إنسان طبيعي يحمل ما بين خمسة إلى عشرة أمراض وراثية، فإذا تشابهت الأمراض الوراثية لدى الزوجين انتقلت إلى الجنين، ولهذا كان الأولاد الناجمون عن زواج الأقارب معرضين للإصابة بالأمراض الوراثية المتحولة أكثر من غيرهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (اغتربوا لا تضووا) أي لا تضعفوا. والضعف في واقع الأمر هو أحد تجليات الأمراض الوراثية.
وإذا أدركنا هذه المعلومات المؤكدة والواضحة واقتنعنا بصحتها فإن الخطوة الثانية هي: كيف نواجه هذا الواقع؟ .. هل نمنع الزواج من الأقارب؟ .. وهل الزواج من بنات العم أو بنات الخال أو من القرابات الأبعد قليلا تلزمه إصابة الأولاد بالأمراض الوراثية؟. يؤكد المختصون أن الزواج من الأقارب يزيد الاحتمال من الإصابة بالأمراض لكنه ليس لازما.. وهذا يعني أن الأمر فيه سعة وفيه مجال لمعرفة الاحتمالات المتوقعة من خلال العودة إلى أصحاب الاختصاص الذين يساعدون من يلجأ إليهم للإجابة عن أسئلة من نوع: هل الزواج من أفراد العائلة يؤدي بالضرورة إلى إنجاب معاقين؟.. ما هي أسباب الأمراض الوراثية؟.. وكيف تنتقل وما هي نسبة تكرارها؟.. وهل هناك أمراض وراثية لا تتكرر في كل الأجيال؟.
المسألة ليست ترفها أو رغبة في (التقليد)، كما يرى البعض، القضية تتعلق بالحياة وسلامة الذرية وصحة المجتمع ولهذا تستحق الاهتمام والتعاون والتعرف على الحقائق عن كثب من أهل الاختصاص. فهل يدرك المجتمع أهمية ذلك؟.. فهذا ما أرجوه.