مع بداية القرن الحادي والعشرين استاء المخرج الكندي (مارك ستارويكز) من تعاظم الشعور المشترك لدى الجيل الجديد من الكنديين بأنهم لا يملكون تاريخاً عريقاً كبقية الشعوب. كان التندّر على قصور التاريخ الكندي وهامشيته دارجاً بين بعض الكنديين أنفسهم وعلى لسان جيرانهم الأميركيين أيضاً رغم أن تاريخ الشعبين بدأ في حقبة زمنية واحدة، بل إن تاريخ الإنسان القديم في كندا سبق رفيقه الأميركي ببضعة قرون كما تقول علوم الآثار. وإزاء تفاقم هذه الظاهرة واقترابها من أن تصبح يقيناً شعبياً يؤثر سلبياً على هوية المواطن، قرر ستارويكز أن يصنع فيلماً وثائقياً يحكي فيه تاريخ كندا للأجيال المعاصرة مخاطباً فيه جميع الشرائح الاجتماعية، ويعيد للشعب الكندي اعتداده بحضوره التاريخي على خريطة العالم وتأثيره على مسيرة الإنسان، ويسرد على الجيل الجديد دروس الأسلاف الثمينة.

وفي عام 2000، وبدعم من الحكومة الكندية، نجح ستارويكز في إنتاج واحد من أفضل الأعمال الوثائقية في تاريخ الشعوب، في سبع وعشرين حلقة، وبلغتي كندا الرسميتين الإنجليزية والفرنسية، في عمل يستمر لاثنتين وثلاثين ساعة متصلة، يسرد فيه تاريخ هذا البلد الشاسع منذ خطت فوقه أول أفواج المهاجرين عبر الجسر الجليدي من آسيا وحتى أعتاب القرن الحادي والعشرين، مروراً بانقسامات الهنود الحمر، ووصول المستكشفين الأوروبيين، وبناء المدن الأولى، وازدهار تجارة الفراء، والصراع الإنجليزي الفرنسي، ومحاولات الاحتلال الأميركية، واكتشاف الغرب الغامض، والثورة الكندية الفاشلة، ثم قرار الحكم الذاتي، والحربين العالميتين، والظروف الاقتصادية التي خاضتها هذه الدولة طيلة سنوات عمرها القصير نسبياً، لتنتهي على ما هي عليه الآن: واحدة من الدول الصناعية السبع الكبرى، ونموذجا حضاريا يحتذى في التعايش الإنساني بين كل الأعراق والديانات.

الآن، وبعد أن عبرت وحدة هذا الوطن حلقتها الثمانين؛ نتساءل: ما هي الطريقة المثلى لتعريف الأجيال الجديدة بتاريخ وطننا؟ الجهود الكبيرة التي قامت بها جهات عدة، مثل دارة الملك عبدالعزيز، وثّقت هذا التاريخ في كتب ودراسات، وحفظت شواهده في متاحف ومعارض. ومهرجان الجنادرية احتفى بتاريخ الوطن وتراثه لأكثر من ربع قرن في مهرجان متجدد تصاحبه فعاليات جاذبة جداً، والهيئة العليا للسياحة والآثار بذلت الكثير من أجل حماية الأماكن الأثرية، وخاضت من أجل ذلك معارك ثقافية وبيروقراطية كبرى. كلها جهودٌ تستحق الشكر والثناء، ولكن لا شك أن عصر الصوت والصورة يتطلّب توثيق هذا التاريخ بشكل أكثر قابلية للوصول إلى كل شرائح المجتمع المعرفية والعمرية، والفيلم الوثائقي هو الوسيط الأمثل في هذه الحالة. فعندما يتعلق الأمر بترسيخ التاريخ الوطني في قلوب الأجيال، وما يتعلق بذلك من قيم الانتماء والمواطنة والهوية، علينا أن نعترف أن مناهج التاريخ لا تكفي، لأنها مدرسية، وحكايات الأجداد لا تتطابق، لأنها عشوائية، ومعروضات المتاحف لا تتكلم، لأنها جامدة. هذا الجيل يؤمن بالصورة، ويتعلم عن طريق الإنترنت والتلفزيون، وليس بقراءة المراجع أو زيارة المتاحف أو ملازمة الأجداد. كل المادة التاريخية التي اعتمد عليها (ستارويكز) من تاريخ كندا كانت موجودة في المراجع والمكتبات والمتاحف ولكنها لم تسعف الأجيال الجديدة في استلهام تاريخها، لأنها لم تتحدث بلغتهم المعاصرة حتى قدّمت لهم بالأسلوب الذي يناسب وسائل التلقّي الجديدة.

من جهة أخرى، فإن تاريخ السعودية، كتاريخ أي دولة، ذو أبعاد متداخلة: السياسي والاجتماعي والديني والجغرافي والاقتصادي والثقافي والجيولوجي. كلها أبعاد ساهمت في صياغة المصير المشترك الذي يعيشه أبناء هذا الوطن اليوم، ولكن بُعداً واحداً أو اثنين، السياسي والديني غالباً، هما اللذان تم توثيقهما، مع ترك بقية الأبعاد للمتطوعين من الكتّاب والباحثين وغيرهم. تاريخ الناس في مساراتهم الاجتماعية لم يتم توثيقه بشكل دقيق ومفصّل ومنهجي، وتلك مهمة ليست سهلة بالتأكيد، كون كل منطقة من مناطق السعودية تحمل قصة ثرية، تتجذر عمودياً لمراحل مبكرة جداً من تاريخ الإنسان، وتتمدد أفقياً لتتعالق مع بقية المناطق بأنماط مختلفة من التعالق الإنساني. كل هذا يجعل من صياغة القصة المعقدة مشروعاً صعباً وضرورياً في نفس الوقت، ويتطلب جهداً جبّاراً ونيّات وطنية خالصة.

آفة التوثيق التاريخي، سواءً على شكل كتاب أو فيلم وثائقي أو عمل فني، أنه لا ينال ما يستحقه من جهد ولا يخرج بما يحتاجه من حياد. وتاريخ الشعوب مختلف عن التاريخ السياسي ولاسيما إذا ما زالت امتداداته تعيش بيننا اليوم. ويصعب تسجيله بشكل يرضي جميع الأطراف التي يحمل كل منها روايته الخاصة عن التاريخ، يكون فيها أسلافه الأعلى والأعرق والأنبل دائماً. يصبح الأمر شائكاً ومهدداً بالغضبات إلى حد صرف النظر عنه اتقاءً للعواقب. وهكذا يمسي وطن كامل محروماً من توثيق تاريخه كما يستحق، لأن بعض القوى الاجتماعية والثقافية التي تعيش فيه لم تتفق بعد على تاريخ يناسب الجميع، وكأن التاريخ هو رواية محبوكة لتطييب الخواطر، وليس رصداً مباشراً لما حدث وكان من حكاية الإنسان.

عمل (ستارويكز) الضخم (كندا: تاريخ شعب) تبدو مدلولاته واضحة من عنوانه. إنه تاريخ الشعب في صيرورته الزمنية، على اختلاف أصولهم. الجميع عاش فوق هذه الأرض الكندية فاستحق أن يكون جزءاً من تاريخها. وعندما سرد (ستارويكز) تاريخ كندا ذكر بكل صراحة تفاصيل ما حدث. لا يوجد من هو مستثنى من المجد، والطريقة الوحيدة لتنعم بأمجاد أسلافك هي أن تكون أول من يعيدها كرة أخرى.

تاريخنا يستحق أن تبذل من أجله الجهود الكبرى والميزانيات السخية. كل المحاذير التي يتخوّف منها البعض يمكن تجنبها إذا تمّ إتقان العمل بشكل حاذق وصادق في آن واحد. التاريخ مدرسةٌ كبرى لا يمكن إغلاقها لمجرد أن ما يدرّس فيها لا يتفق عليه الجميع، ولا يمكن ترك المهمة للاجتهادات الشخصية أيضاً.

من المؤلم أن تاريخ بعض المناطق في السعودية لم يدوّن إلا في مراجع أجنبية بلغات أخرى، وتاريخ بعض الشخصيات المؤثرة لا تطرقه إلا بعض القصائد الشعبية التي بدأت تشوّهها الزيادات والتأويلات، وتاريخ بعض الأمكنة التاريخية أصبح ضبابياً ويصعب البحث عنه في غابة الإسمنت. وكلما طال علينا الأمد أصبحت الشكوك المتضاربة حول التاريخ أكثر تعقيداً، والروايات المنحازة أكثر رسوخاً، والآثار السابقة أبعد عن أبصارنا وذاكرتنا. والأسوأ من ذلك ضعف الاهتمام بالشأن العام بسبب عدم قدرة الجيل على استيعاب قيمة المكتسب التاريخي لوجودهم.