في ظل التطورالعالمي الذي يشهده القرن الواحد والعشرون، والثورة التكنولوجية الهائلة في وسائل الاتصال، والانفجارالمعلوماتي، والعولمة على الصعيد العلمي والثقافي والاجتماعي، إلا أن مجتمعاتنا العربية مازالت حركتها بطيئة ومترنحة في اللحاق بركب عجلة التقدم الحضاري، ولا أبالغ حينما أقول إنها تدير ظهرها إلى الخلف، وتسير إلى الوراء معرضة عن العلم والتفكيرالعلمي، لتُحل محله التقدم في التفكير الخرافي الذي استطاع أن ينتزع له مكانة كبيرة ومؤثرة في الحياة اليومية، بل أعلى من ذلك لتصبح له كلمة الحضورالدائم.

مجتمعات عربية منكفئة على نفسها وغارقة في أحلام الماضي المجيد يعيش نصفها في العصر الحالي والنصف الآخر في الماضي السحيق، والأنكى من ذلك أن فيها من هو منكمش على ذاته، وهو في ذات الحال منتفخ يكاد من غروره بالأوهام والخرافة يطير في السماء.

التفكير الخرافي يعني تعطيل دور العقل، وتكبيله لصالح المنطق الشعبي المتوارث الذي يتمظهر في حالات السحر والشعوذة مثلاً كقوة خارقة تكسر قوانين الطبيعة، وتغذي حالة التواكل لتكرس حالة الجمود العقلي، فالعقل عندما يعطى إجازة تصبح الخرافة هي البديل.

(470) خرافة يتم التعامل معها كمسلّمات في العالم العربي، وليس لها أصل عقلي ولا منشأ صحيح، هذا ما تؤكده الدراسة الصادرة من المركز العربي للبحوث الاجتماعية. وأكدت الدراسة كذلك أن الذين يبيعون الوهم في الوطن العربي من سحرة ومشعوذين وقرّاء الكف والفنجان يُقدّر عددهم بـ (250) ألف إنسان، يستهلكون من الأموال خمسة مليارات دولار سنوياً.

إنه أمر في غاية الغرابة أن تصبح الخرافة علماً في مجتمعاتنا العربية! إن الأمم المتقدمة إنما وصلت لهذا التقدم التكنولوجي المذهل عندما استخدم أفرادها عقولهم، بيد أن المجتمعات المتخلفة تخلّفت عندما تخلّت عن استخدام العقل، وهنا يأتي سؤال: هل الغرب لديهم خرافة؟ الجواب (نعم) ففي دراسة نشرتها إحدى المجلات العربية تقول: في فرنسا -موطن ديكارت أبو العقلانية الحديثة- يوجد ما يزيد على (50) ألف منجّم ومشعوذ، يرتادهم سنوياً أكثر من (10) ملايين شخص، ويُحققون أرباحاً خيالية تُقدّرها مصالح الضرائب بحوالي أربعة ملايين دولار سنوياً لكل واحدٍ منهم.

إن الخرافة وإن كانت موجودة في الغرب لكنها تبقى محدودة الأثر وذليلة في فضاء العلم والتفكير العلمي بآفاقه الواسعة، إلا أنها في بلادنا العربية أصبحت منافسة للعلم وتزاحمه باقتدار وامتياز.

دعونا نسلط الضوء على نماذج "الهبل" المستديم لثقافة الخرافة والتي أبتلي بها عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج لعلنا نتذكر كيف انشغل الناس في منطقتنا الخليجية قبل فترة بشائعة حول ماكينة الخياطة القديمة، والتي تناقلتها مواقع الإنترنت ومفادها أن رجلاً ألمانياً ادّعى أنه عثر على كمية كبيرة من الذهب الروماني تقدر بالملايين، ولكن هذا الذهب محمي بواسطة الجن، ويلزمه زئبق أحمر لفك الجن عن هذا الذهب، ولا يتوفر هذا الزئبق الأحمر إلا في هذه المكائن القديمة للخياطة. وسرت هذه الشائعة، وأخذت أسعار هذه المكائن في التصاعد، إلى أن وصلت قيمتها في مزادات بحفر الباطن ووادي الدواسر والرياض والكويت ما بين خمسين ألف إلى مئة ألف ريال، وبدأ الناس يبحثون عنها في كل مكان.

وإذا انتقلنا إلى مصر فنجد أن فيها 300 ألف شخص يمارسون العلاج بالأرواح. وهناك 300 ألف غيرهم يعالجون الأمراض بالرقى والأعشاب. وفي إحصاء موثوق أن في مصر دجالاً لكل 240 مصريا، بينما يوجد طبيب لكل عشرة آلاف مواطن.

يقول الشيخ عبدالحق المسفوي وهو أحد أشهر المعالجين بالرقية في المغرب: "إن فصل الصيف في المغرب يُعد موسما لصيد الزبائن الخليجيين على أيدي المشعوذين والدجالين الذين يوزعون السماسرة على المطارات والفنادق والشقق المفروشة أو يستعينون بسائقي سيارات الأجرة أو عمال الفنادق أو حراس الشقق المفروشة"، وإن بعض الأسر الثرية تحتفظ في منازلها بالدجالين والمشعوذين لدفع المكاره وطرد الشياطين.

بسبب شيوع العقلية الخرافية يموت آلاف الأطفال والفتيان والنساء والرجال سنويا جراء العلاج الشعبي. وبسبب هذه الخرافات يغتصب الدجالون آلاف النساء وهم يوهمونهن بالعلاج من العقم مثلا، وهناك مع الأسف صحف تتصدى لمفاهيم التقدم والعقلانية، لكنها تنشر، في الوقت نفسه، زاوية يومية عن الأبراج، وهناك مجلات تزعم أنها تنتمي إلى العصر والعلم المعاصر، لكنها لا تتردد في تسويق أخبار الخرزة الزرقاء الخاصة بالعين، وهناك قنوات فضائية مشهورة شغلها الشاغل الحديث عن الأحلام وتفسيراتها، حتى إن بعضهم لا يقدم على عمل في النهار حتى يحلم به ليلاَ.

بالطبع لست أتحدث هنا بعقلية الأبيض أو الأسود، هل الأحلام وتفسيراتها صواب أم خطأ؟ ولست في معرض الحديث حول جدوى الرقية أو الطب الشعبي من عدمها، إنني أتحدث عن منطقة رمادية، وما أريد قوله هو إنه علينا الإسهام في بناء شخصية إنسانية ترتكز على قاعدة ثقافية علمية رصينة وقوية، لا تستقبل كل ما يُلقى إليها لتكون فريسة لحالات النصب والاحتيال، علينا أن نصنع شخصية ذات ثقافة عقلانية في مقابل الثقافة الخرافية، ليكون الأصل فيها هو عدم تجاهل السنن والأسباب الطبيعية التي تُسير الحياة ويحكمها العقل والعلوم الحديثة بآفاقها الواسعة.