تداولت مواقع ومنتديات النت والقنوات الفضائية الأسبوع الماضي مقطع فيديو يعرف اليوم بمقطع خروف عرعر. القصة كالتالي: شاب سعودي شاهد خروفا يتجول في المستشفى العام بمدينة عرعر شمال السعودية فاعتبر هذا المشهد دليلا على سوء عمل المستشفى فلجأ إلى جواله الشخصي وبدأ يسجل المشهد جذلا مرددا عبارة في غاية الأهمية " والله لأفضحهم". يقصد إدارة المستشفى المهملة. نفّذ الشاب وعيده وأطلق المشهد ليعبر المسافات والقارات ليمر بوزير الصحة ومدير المستشفى والملايين من المواطنين المستائين من الخدمات الصحية في الكثير من المناطق. أحدث الشاب بعمله البسيط حركة هائلة على أرض الواقع. أطلق مع المقطع خطابا هائلا نقديا بين الناس والمسؤولين وفتح ملفا مزعجا للكثيرين.

ما الذي يجري هنا؟ وما الذي يعطي هذا النوع من المقاطع هذه القيمة والأثر؟ عبارة الشاب التي رددها مبتهجا أكثر من مرة واعدا بها ومبشرا هي سر الحكاية. "والله لأفضحهم" هذه العبارة تعبر عن الوعي القابع خلف ما يجري وهو المؤشر على التغيير الجوهري في العلاقة بين الفرد والمؤسسات الرسمية الذي تحدثنا عنه الأسبوع الماضي. الفرد المُمثل هنا بمصوّر المشهد تحرك في سياق عام من الوعي الجديد. الوعي يرتكز على التالي: إدراك للفساد المتمثل في سوء الخدمات المقدمة للمواطنين. هذا الفساد يقوم عليه مسؤولون لا يؤدون الأمانة كما ينبغي، نحن المواطنين نتحمل المسؤولية أيضا ويجب علينا "فضح" المستور، اليوم العملية سهلة وبدون مخاطر فقط أبق عينك مفتوحة وراقب الواقع وحين تعثر على الحدث الذي يفضح الفساد لا تتردد صور وأرسل المقطع. هذه العملية فعّالة والشواهد كثيرة على المسؤولين الذين تم إبعادهم بسبب نشر فضائحهم. إذن فلنقم بالعملية سعداء.

في السابق كانت عملية كشف الفساد عملية مضنية للأفراد ولها مقابل يتخوّف الكثيرون من دفعه. كانت عملية الكشف عن الفساد تتطلب الكشف عن الشخصية والدخول في إجراءات بيروقراطية غالبا ما يكون للمسؤول اليد الطولى فيها. كانت تتطلب الدخول في معركة غير متكافئة الأطراف. المسؤول التنفيذي والمرتبط بشبكة داعمة من العلاقات بغيره من المسؤولين وفي المقابل المواطن الوحيد والجاهل بكثير من الإجراءات القانونية أو بمعادلة اللعبة داخل دهاليز الجهات الحكومية وغابة المحسوبيات. كل هذا يجعل أغلب الأفراد يترددون في محاربة الفساد وبعضهم يختار الانخراط فيه أو السكوت عنه من أجل تحقيق حاجاته الضرورية. لا توجد قناة أخرى آمنة يمكن أن يتحرك خلالها الأفراد. لم يكن أمامهم إلا الثرثرة في مجالسهم الخاصة والتنفيس عن ضغوطاتهم.

المعادلة الآن تغيّرت لصالح الأفراد. محاربة الفساد لم تعد عملية محفوفة بالمخاطر بقدر ما أصبحت مسلية وممتعة. المعلومة أصبحت اليوم في يد الأفراد. اليوتيوب ملك متاح لشاب عرعر ليطلق المقطع من خلاله للملايين. وصل شاب عرعر للناس من خلال عملية لم تسغرق دقائق معدودة. المسؤول هنا في الموقف الأضعف فالحقيقة التي رآها الناس لا يمكن مقاومتها. ليست العملية متوقفة على خروف تسلل للمستشفى بل إلى حالة عامة من الاستياء الشعبي من الخدمات المقدمة من قبل المستشفيات العامة التي لا تلبي حاجات ولا طموحات الناس. لم يشعر شاب عرعر بالخطر من نشر هذا المقطع فهو لم يسرب وثيقة سرية بقدر ما نقل "الواقع". الواقع هو أكبر الشواهد وأعصاها على التكذيب والاحتيال.

تأتي قصة خروف عرعر ضمن سياق كبير من تحول علاقة الأفراد بالمؤسسات من خلال انخراط الجميع في عالم جديد خلقته التكنولوجيا الحديثة. في هذا السياق يتشكل وعي مهم وأساسي يحث الأفراد على ممارسة التغيير في الواقع. وعي يحث الأفراد على لعب دور المراقب والمتابع للواقع. وعي يحول الفرد من كائن سلبي مغترب عن الواقع إلى فرد منخرط في عملية خلق الواقع والمساهمة في تحولاته. وعي ينخرط فيه الجميع بدون اشتراطات مسبقة. المطلوب جهاز تصوير وهو متوفر للغالبية واتصال بالإنترنت وهو متوفر أيضا والباقي تتكفل به شبكة هائلة ومعقدة وشديدة التفاعل من خلال انخراط الجميع في عالم المعلومات المفتوح للجميع.

يتخوف الكثيرون من تحول الإنسان إلى آلة بسبب سيطرة التقنية عليه وحلولها مكانه وتكييف تفكيره بحسب منطقها الخاص. هذا سؤال كبير وهناك محاجة طويلة وعميقة ضد سلب التقنية لحرية الناس ولكن الأكيد الآن أن الأفراد يتمتعون بقدرة أعلى على ممارسة وجودهم في العالم. لقد دخلنا في حقبة تاريخية جديدة مفتوحة الباب للجميع وتفتح معها بابا أوسع للمساواة والحرية. العالم الافتراضي المزعوم على شبكة المعلومات لم يعد افتراضيا بقدر ما أصبح عالما واقعيا مرتبطا بشكل وثيق بالحياة. عالم أتاح لشاب عرعر أن يشارك في تحسين حياته وحياة من حوله من خلال طوفانه في كل الأرجاء ليعود إلى عرعر محملا بطاقة وقوة من الصعب مقاومتها. عالم يعيد لهذا الشاب وأقرانه وقريناته الثقة بأنفسهم وبانتمائهم لواقعهم.