منذ أسبوع تقريبا برمجت دماغي وجميع حواسي ليكون موضوع مقال اليوم عن الحديث الدائر حول تلوث مياه زمزم، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان, حيث أصيب في يوم واحد خمسة مواطنين ومقيمين ممن تربطني بهم صلة رحم وصداقة بداء حمى الضنك، الذي أصبح يمثل تحديا صحيا واقتصاديا خطيرا على جميع المواطنين لا فرق في ذلك بين غني أو فقير، وفطيم ورضيع, وامرأة ورجل, شيبة وشبان, والغريب والعجيب أن الأبحاث العلمية في جميع دول العالم تدور على قدم وساق لمعرفة أسرار هذا الداء المعقد وأسرار البعوضة الناقلة له, وعلينا نحن السعوديين إذا أردنا التخفيف من ويلات هذا الوباء اللعين اتباع نفس المنهج العلمي المتبع في جميع دول العالم، وإذا فشلنا علميا في القضاء على هذا الداء وبعوضته اللعينة فالأحرى بنا أن نقفل جميع جامعاتنا التي أنفقت الدولة عليها مليارات الريالات، فإدارة مكافحة حمى الضنك يجب أن تدار رحاها تحت إشراف أساتذة متخصصين في علم الحشرات والسلوك والعلوم البيئية في معامل الجامعات والمعاهد العلمية، لا عن طريق مطاردة البعوض في شوارع جدة!! الشيء المضحك المبكي هو أن نرى أن جميع جامعاتنا تسعى لهدفين، الهدف الأول هو تلميع صورتها عالميا، بأي طريقة كانت، والغاية تبررها الوسيلة ليرتفع ترتيتبها وسط الجامعات العالمية الأخرى، أما الهدف الثاني فهو إعداد الخريجين لتلبية سوق العمل، يا سبحان الله، أين الحديث عن الكوارث التي تعصف بنظمنا البيئية، أين أبحاثكم يا سادة يا كرام عن حمى الضنك، أين أبحاثكم يا سادة يا كرام عن زيادة النسبة في أمراض السرطان في المدينة المنورة والمنطقة الشرقية، أين حديثكم يا سادة يا كرام عن تلوث المياه الجوفية، أين حديثكم يا سادة يا كرام عن تلوث النظم البيئية، أين حديثكم يا سادة يا كرام عن التلوث بمياه الصرف الصحي أين وأين وأين.. ولكن لا حياة لمن تنادي! هل يعقل أن نبعث بمياه زمزم لفرنسا لتحليلها ومعرفة ما إذا كانت ملوثة بمادة الزرنيخ!! أين جامعاتنا ومعاهدنا العلمية التي أنفقت عليها الدولة المليارات؟ والحق يقال إن أمانة مدينة جدة لا تستطيع بمفردها مواجهة الحرب مع بعوضة حمى الضنك، والعجيب والغريب أن جامعاتنا غير مهتمة من قريب أو بعيد بالمشاركة في المكافحة، وأرجو من الله ألا يكون عدم المشاركة ناتجا عن قصور وعدم قدرة علمية في المساهمة في المكافحة!! الدولة ماليا لم تقصر وأنتم تعلمون حدوتة 1300 مليون ريال التي دفعتها الدولة لمكافحة بعوضة حمى الضنك! ويجب أن يعلم الجميع أنه لا يمكن الانتصار في حربنا ضد بعوضة الضنك، إلا بدراسة سلوك هذه البعوضة دراسة علمية دقيقة بناء على معطيات نظمنا البيئية وليس بناء على معطيات النظم البيئية في كوالالمبور!! إن النهج الارتجالي الذي تتبعه الأمانة في مكافحة هذه البعوضة ما هو إلا إهدار للطاقات البشرية والمادية!! فالتجربة الماليزية في مكافحة هذه البعوضة لا يمكن تطبيقها في مدينة جدة، السبب في ذلك كما ذكرت سابقا هو اختلاف معطيات نظمنا البيئية عن المعطيات البيئية الماليزية!! الاختلاف في هذه المعطيات البيئية، أدى إلى تمايز واختلاف في سلوك بعوضة حمى الضنك إديس إجيناي Aedes aegypti ، فأصبحت بعوضة إديس إجبتاي الماليزية تختلف عن إديس إجبتاي الجداوية، وإديس إجبتاي الجدوية تختلف في سلوكها عن مثيلاتها الأمريكية والهندية والبرازيلية... حيث يصنف السلوك في هذه الحالة حسب المعطيات البيئية، ويتزامن مع هذا التغير في السلوك والمعطيات البيئية إلى تغير في الجينات الوراثية، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى ولادة نوع جديد من البعوض يختلف تماما عن البعوض الماليزي هذا الأمر قد يحدث الآن إذا كان هناك تغير مفاجئ Mutation في الجينات الوراثية عندها يتم تصنيف هذه البعوضة تصنيفا علميا آخر، أو قد يأخذ هذا التغير الوراثي سنوات طويلة قد تمتد لمئات السنين، وفي كلتا الحالتين سيتوالد لدينا بعوض يختلف تماما عن جميع بعوض العالم، ولا أعلم إن كان هذا النوع في شراسة البعوضة إديس إجيبتاي أو أضعف، هذا في علم الله!!

ومنذ بداية ظهور هذا الوباء، اختلفت تماما مع النهج الذي تتبعه أمانة مدينة جدة في مكافحة هذه البعوضة، فهم يصرون على أن هذه البعوضة لا تتوالد إلا في المياه النقية، وقد اختلفت معهم في هذا النهج، لأنني على علم ودراية أن أي حيوان تضعه في أي نظام بيئي جديد أمامه أمران إما أن يتأقلم مع النظام الجديد فيعيش ويترعرع، وإما أن يكون غير قادر على التأقلم مع معطيات النظام البيئي الجديد فيندثر ويموت، وهذا المبدأ من أهم الأسس التي قامت عليها نظرية النشوء والارتقاء Evolution لدارون، وحيث إن نسبة هطول الأمطار ضعيفة ولا يمكن مقارنتها بنسبة الهطول في كوالالمبور، لذا ليس أمام بعوضة حمى الضنك سوى التكاثر والتوالد في مياه البيارات ومستنقعات مياه الصرف الصحي، وفي هذا الشأن أوضحت لهم أن تكاثر بعوضة حمى الضنك في ماليزيا في مياه المستنقعات الصافية، ليس بسبب نقاء المياه، وإنما بسبب عامل بيئي وسلوكي آخر، وهو أن المياه النقية في المياه الاستوائية عادة ما يكون التنوع الحيوي Biodiversity فيها قويا وكبيرا بمعنى أن هذه المستنقعات تضم آلاف الأنواع الحيوانية والحشرية الأخرى، التي لا تستطيع يرقات حمى الضنك التنافس معها على الغذاء والأكسجين، لذلك تختار المناطق النائية والمعزولة مثل شقوق الأشجار والمستنقعات النائية الصغيرة، وقد وهبتها الطبيعة صفة تأقلمية فريدة وهي قصر حياة تطورها التي لا تزيد على عشرة أيام، تمر من خلالها على أربعة أطور Instars وهي الطور البيضي والطور البرقي والطور الشرنقي وطور البعوضة الكاملة.