بعد صدور قرار خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – بالموافقة على تنظيم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، اتضحت الرؤية أكثر بالنسبة لدور الهيئة في مجال مكافحة الفساد، وبالرغم من قصر الفترة الزمنية الفاصلة بين إنشاء الهيئة وقرار تنظيمها، إلا أن النظام جاء وفق التطلعات والتوقعات، ويمثل في نظري خطوات جادة وفعّالة نحو مكافحة الفساد بنوعيه المالي والإداري.
وقد أعطى التنظيم الجديد صلاحيات ومهام واسعة جداً للهيئة في ممارسة وتنفيذ أعمالها، وإن كانت تبدو لغير المختص أنها غير واضحة أو غير كافية على وجه من الوجوه، وذلك لأن مواد النظام جاءت بالعموم دون تفاصيل محددة حسب رأي البعض.
ولكن إذا علمنا أن الأنظمة في الغالب تكون على شكل قواعد قانونية عامة ومن ثم تأتي بعد ذلك اللوائح التنفيذية والقواعد الإجرائية بتفاصيل أكثر، حيث نصت أكثر من مادة في التنظيم على ذلك، ومنها على سبيل المثال: أن تصدر اللوائح التنفيذية للتنظيم بأمر ملكي بناءً على اقتراح رئيس الهيئة.
وللتوضيح أكثر، سوف نأخذ بعض المهام الرئيسية للهيئة لمناقشتها بشكل مختصر، وذلك للتأكيد على شمولية النظام وإعطاء الهيئة صلاحيات واسعة في ممارستها لأعمالها، مع وضع بعض المقترحات التي قد تساهم في رفع كفاءة أعمال الهيئة في المستقبل، وذلك على النحو التالي:
أولاً/أعطى التنظيم للهيئة استقلالية تامة، فقد تضمن في مواده أن الهيئة ترتبط بالملك مباشرة، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال التام، ومن أوجه هذا الاستقلال أن تكون للهيئة ميزانية مالية مستقلة، وأن يخضع منسوبوها لنظام العمل ونظام التأمينات الاجتماعية، مما يعطي للهيئة مرونة واسعة في عملية التصنيف الوظيفي ووضع الوظائف المناسبة للهيئة، ومنح موظفيها الاستقلال الذهني والفكري.
وبالطبع فإن الهدف من إعطاء الهيئة هذه الاستقلالية هو أن تعمل بنزاهة وموضوعية وحياد في جميع الأمور التي تتعرض لها في قضايا الفساد، ويجب أن تتميز بالعدالة لجميع الأطراف والفئات المختلفة، وأن تتجنب جميع العلاقات والظروف التي قد تدعو إلى الشك في استقلاليتها.
وبناءً على ما سبق أقترح أن تضع الهيئة قواعد للسلوك المهني لمنسوبيها تتضمن القواعد الهامة لتحقيق الاستقلالية وتشتمل على العوامل التي تؤثر على مظهر هذا الاستقلال.
ثانياً/ من ضمن مهام الهيئة: التحري عن أوجه الفساد المالي والإداري في عقود الأشغال العامة وعقود التشغيل والصيانة وغيرها من العقود.
ومن المعلوم أن أهمية مثل هذه العقود تتمثل في تخصيص جزء كبير من ميزانية الدولة لتنفيذ العديد من المشاريع التنموية بالإضافة إلى أنها من أهم الوسائل لتحقيق أهداف الجهات الحكومية المختلفة، وتتحقق أوجه الفساد في هذا الجانب عن طريق تكييف الشروط والمواصفات الفنية لهذه العقود بما يتفق مع الأهداف الخاصة للموظف الحكومي، بعيداً عن تحقيق المصلحة العامة، ومن أوجه الفساد أيضاً في مثل هذه العقود هو تواطؤ الجهاز الإشرافي سواء عن طريق الجهة نفسها أو المكاتب الاستشارية مع المقاولين، وهناك بالطبع أنواع كثيرة لأشكال الفساد ولكن هنا نجد أن التنظيم أشار إلى ذلك صراحةً وجعل التحري عن الفساد بجميع أشكاله في هذه العقود من المهام الرئيسية للهيئة.
ومن التحديات التي قد تواجها الهيئة في هذا المجال الحاجة إلى وجود تخصصات فنية (هندسية، طبية، معلوماتية.. إلخ) حتى تستطيع تحليل العقود من الناحية الفنية حيث إن أغلب أوجه الفساد تتركز في هذه الناحية من خلال التلاعب بالمواصفات، لذا فإن الهيئة أمام خيارين إما أن تستقطب هذه التخصصات للعمل لديها، أو عن طريق التعاقد المؤقت مع أصحاب الخبرات في هذا المجال، أو الاثنين معاً، وقد أعطى التنظيم الهيئة الصلاحية اللازمة لجميع الخيارات.
ثالثاً/ ومن مهام الهيئة أيضاً/ توفير قنوات اتصال مباشرة مع الجمهور لتلقي بلاغاتهم المتعلقة بتصرفات منطوية على فساد، والتحقق من صحتها واتخاذ ما يلزم في شأنها، وتحدد اللوائح التنفيذية لهذا التنظيم الآلية والضوابط اللازمة لذلك.
ونلاحظ هنا أن التنظيم ذكر تحديد اللوائح التنفيذية صراحةً، وذلك للتعقيدات والمشاكل التي تتعلق بالشكاوى والبلاغات وعلاقتها المباشرة بالكشف عن الفساد، ولهذه المشاكل أوجه عدة منها فيما يتعلق بالشكاوى الكيدية وقد حددت الأنظمة كيفية التعامل مع هذا النوع من الشكاوى، ولكن هناك مشكلة أخرى تتعلق بوجود إجراءات تعسفية قد يتعرض لها الشاكي نتيجة لتقديمه بلاغاً ضد الإدارة أو الجهة التي يعمل بها بالإضافة إلى وجود بعض التعقيدات البيروقراطية وخاصةً إذا كان الأمر يتعلق بكبار المسؤولين، مما يؤدي ذلك إلى إحجام البعض أو التخوف من تقديم البلاغات، لذا يجب الأخذ في الاعتبار عند وضع الآلية لتنظيم هذه العملية حماية مقدمي البلاغات من أي إجراءات تعسفية قد يتعرض لها، والاستفادة من المادة (13) من التنظيم التي تضمنت تقديم مكافآت مادية ومعنوية لمن يساهم في كشف حالات الفساد.
رابعاً/اشتمل التنظيم على مهام عديدة تتعلق بقياس الفساد ومتابعة إجراءات وأساليب العمل وتحديد نقاط الضعف التي يمكن أن تؤدي إلى فساد العمل على معالجتها، وقد تحدثت عن هذا الموضوع في مقالات سابقة في صحيفة الوطن ولكن هناك نقطة مهمة تتعلق بعملية تقييم أنظمة الرقابة الداخلية التي عن طريقها يمكن تحديد نقاط الضعف في إجراءات وأساليب العمل لكن مازالت عملية التقييم هذه غامضة وقلة قليلة جداً من تقوم بذلك بالإضافة إلى عدم إعطائها الأهمية اللازمة بالرغم من دورها الفعّال في مكافحة الفساد، لذا من الضروري التركيز على هذه العملية عند قيام الهيئة بأعمالها.