عرف تاريخ الفن نماذج كثيرة لفنانين رفضوا الالتزام بالقواعد المتوارثة للفن، ومنهم ليوناردو دافنشي. كذلك نجد من الفنانين من ابتكر مدارس فنية لم تكن موجودة من قبل، ومنهم بيكاسو مبتكر التكعيبية، هذا إضافة إلى ظهور مواهب كبيرة طورت في تقنيات الفن، ولا ننسى تطور الخامات الفنية والأدوات منذ بدايات القرن العشرين.

أما الفنانون الذين شكلوا ظاهرة، فيقف على رأسهم سلفادور دالي. ومن خلال كتاب "أنا والسوريالية" الصادر حديثاً عن مجلة دبي الثقافية وقام بترجمته أشرف أبو اليزيد، الذي عبر فيه عن كثير من أفكاره وتفاصيل في حياته العائلية والفنية، نجد أسس تلك الحياة الصاخبة التي أبدع فيها في مجالات الرسم، والنحت، وتصميم الأزياء والمفروشات، والسيناريو السينمائي، إضافة إلى اللوثة الفنية التي يعبر عنها شكل شاربه الشهير. كل ذلك قاده دالي إلى التحقق عبر الطمع، فكما يصف نفسه فقد كان جشعاً للمال، وهذا يوازي "جشعه" للفن والإجادة والإتقان "يمكن القول إن عقلي آلة عرض تشع من خلال عيني، وأتتبع السيناريو على شاشة السقف. وعندما أرغب أستطيع أن أعود للخلف، وأصحح بعض أجزاء منه، أو أجعل التفاصيل أكثر وضوحاً، وأن أضاعف الأجساد والمواقف إلى حد الطقوس العربيدة؟".

وبذلك استغل دالي كل مواهبه لصنع الذهب وصيد الجوائز الثمينة لإرضاء جشعه التبذيري والتمتع بخيالاته الصاخبه مع حبيبته وزوجته غالا.. "الإنجيل، وقصائد ما تسي تونغ، ومذكرات كازانوفا لـ"أبولينير"، وصناعة الحلي، وتصميم الأزياء، وعمل الأحجيات الفوتوغرافية، كلها جذبت انتباهي، وألهمت عصب يدي، وعيني المصمم الواثق، على وضع علامة دالي على كل القيم التي تحولت بالتالي إلى ذهب".

ومن هنا تبدو صراحة دالي الجارحة التي ترتبط بتكوينه الأول في طفولته، وفي ذلك الشعور الطاغي بالتميز عن أقرانه في بلدته، وبين الفنانين "قررت عامداً أن أؤكد كل جوانب شخصيتي. أبالغ في كل التناقضات التي وضعتني بعيداً أكثر عن أولئك الفنانين العاديين. خصوصاً ألا يكون لي تعاملات مع الأقزام الروتينيين الذين يحيطون بي، وألا أغير مثقال ذرة من شخصيتي".

حتى بيكاسو، الذي كان متقدماً عليه في العمر، وفي الشهرة، لم يسلم من تصريحاته الجارحة "كان العام 1927، ومازلت بحاجة إلى إثبات نفسي قبل أن أتجاوزه، لابد أنه أحس بشيء ما لأن نظراتنا الأخيرة، كل منا للآخر، كانت إشارة متبادلة للفهم والتحدي. هيا إلى سيفك يا بيكاسو.. هيا إلى سيفك يا دالي"، حيث كان يعتبر حتى التنافس الفني هو نوع من المبارزة، وبالطبع لم يكن شخصا بارانوئيا مثل دالي يجرؤ على مبارزة حقيقية، فهذا نوع من الهذيان، ونوع من الحسد والتنافس غير الشريف المبطن بالكتمان "يجب على الفنان والشاعر السوريالي أن يجسد بشكل ملموس الهذيان، وهو الطريق السري الذي يفضي إلى عالم البارانويا المجهول".

إن دالي حين يتحدث عن فنه يتألق في الرؤيا وفي التنظير، بل ويقترب من الشعر في توصيفه للرسم "إن أعمالنا تقع في المنطقة الوسطى بين العلم والفن على ضفاف نهر اللامعقول، ونحن فيه أمهر الملاحين"، لكنه يقع أسير بارانوئيته حين يعتبر أن ما يصنعه في لوحته هو الأوحد، أو الأول، بلا منازع.

ويروي دالي صداقته مع أندريه بريتون، ثم العداوة التنافسية على زعامة السوريالية بينهما، حتى إن بريتون وصفه محقاً بحب الذهب بشكل جنوني "كان أندريه بريتون هو الذي عُني بنبذ مزاجي وتذوقي للذهب. بذلك الجناس مع اسمي "سلفادور" بـ"أفيدا دولار"، أي الشره للذهب".

كذلك يحط دالي من قدره الإنساني عبر جنون حب الذهب وصرفه في غير مواضعه، ومن ذلك نستشهد بقوله "أتذكر أنني صرفت آخر مئة بيزيتا في فجر أحد الأيام في مدريد بعد ليلة من الصخب لشراء سلة من زهور الغاردينيا أهديتها إلى شحاذة خرساء أبهجني بؤسها"! فأي بؤس رآه دالي في تلك الشحاذة حتى يبتهج، وأية بهجة تلك التي لا يراها سوى مختل، أو سكير خمر عقله جنون العظمة، أو تأثير الخمرة، في تلك الليلة، وما حاجة الشحاذة الخرساء إلى الغاردينيا سوى نوع من علة نفسية لا شفاء لها حتى على يدي فرويد الذي امتدح دالي في لقائهما في لندن.

غير أن دالي المختل، والفنان، والبارانوئي، يبدو في فقرات من كتابه أستاذاً في النقد الفني، وفي حركة تاريخ الفن، وخبيراً في الاتجاهات الفنية المعاصرة له "انحدار الفن الحديث جاء نتيجة الشك ونقص الإيمان الناتج عن المادية الميكانيكية. أنا، دالي، باستعادة تيار التصوف الإسباني، سوف أثبت وحدة الكون من خلال عملي بإظهار الروحية لكل مادة". وبذلك لا يوفر دالي فرصة في كتابه للقول إن الفن نظرياً وعملياً هو دالي، وفقط دالي، وها هو يغمز من قناة بيكاسو بقوله "تفوقي عليه يكمن في اسمي باعتباره: جالا ـ سلفادور ـ دالي، ومعرفتي أنني مخلص الفن الحديث، الذي عكف هو على تدميره... كان هو وحده يائساً لدرجة أنه أصبح شيوعياً، لم يتوقف عن جعل نفسه ديوثاً".