بالعلم وحده تنهض الحضارات وترسم مسيرة الأمم، وحرصاً من خادم الحرمين الشريفين – يحفظه الله – على التنمية المستدامة أطلق مبادرته باستحداث برنامج الابتعاث الخارجي الذي يعد أهم مشاريع التنمية في وطننا؛ بدأ البرنامج بمرحلته الأولى عام 1426هـ، واستمر خمسة أعوام، قامت فيه وزارة التعليم العالي والملحقيات الثقافية بتقويم التجربة علمياً والاستفادة من التغذية الراجعة في تحسين وتطوير البرنامج كماً وكيفاً، واستمرت قناعة الوزارة بنجاح البرنامج وتحقيق أهدافه لتزف البشرى لأبناء الوطن وبناته بأمر خادم الحرمين الشريفين بإطلاق المرحلة الثانية لتحقيق طموحات وتطلعات مستقبل وطن.

وفي كل أمة أو مشروع أو تغيير ينبري مقاوموه بكل الأساليب، وكانت تلك قصة بداية الابتعاث عندما بدأ وبدأت معه موجة مناهضة متفاوتة الزمن والتصوير والعداء باللجوء أحياناً إلى المبالغة والتهويل لتحريف الحقائق وتزييفها وتفسيرها دون دلائل أو دراسات دامغة، فقد بدأ تصوير الابتعاث بعدة مناورات؛ تارةً بأنه من أفتك الأسلحة لزلزلة الإسلام من القلوب، ومحاولة اقتلاع جذوره من نفوس المبتعثين، وتارةً في الانهيار الخلقي وتأكيد العبودية للغرب وتحقيق أغراض أعداء الأمة، ثم اتسعت دائرة العداء حتى جُعل الابتعاث برمته شراً مستطيراً عند البعض.

الأسبوع الماضي تناول أحد الدعاة (قصةً) في برنامجه عندما اتصلت به فتاة في الابتعاث تشكو من تأثرها، حيث حصلت لها قصة معقدة تعرضت خلالها لمرض الإيدز بعد أن أوقعها أخوها في أوحال المخدرات والآثام.. فبدا تصوير قصة (زنا المحارم) و(الإدمان) و(الإيدز) كإسقاطات وإيحاءات سببها برنامج الابتعاث، كثيرٌ من المبتعثين تناقلوا تلك القصة باستياء وامتعاض بتحميل القصة كثيرا من المبالغات دون تبين، مثلما أثرت سلباً في مشاعر كثير من أهالي المبتعثين بنشر صورة سيئة عن الابتعاث والمبتعثين، جعلنا ذلك نعيش الدهشة والاستغراب في تلك الرغبة عند البعض بممارسة الوصاية للتشنيع بالابتعاث وترويج قصص مختلقة وإشاعات أخرى مجتزأة، مما يجعلنا نتساءل ما هي الرسالة التي يود إيصالها هؤلاء من خلال ربط تلك الآفات بالابتعاث فقط؟

وحتى نكون موضوعيين ومنصفين في إظهار الحقائق وبالأرقام فمجتمعنا ليس معصوماً أو ملائكياً (بخصوصياته) التي جعلناها منزهة عن أي خطأ يعتريه من الآفات والأمراض، فمجتمعنا داخل المملكة (دون ابتعاث) به سفاح وزنا محارم، واللجنة النسائية بجمعية حقوق الإنسان في منطقة مكة المكرمة (فقط) تستقبل أكثر من 20% من قضايا التحرش وزنا المحارم، أي 60 حالة من مجموع 300 قضية أسرية مبلغ عنها، ناهيكم عن المناطق الأخرى وعن الحالات التي لم يتم الإبلاغ عنها. وبالنسبة للإيدز فإجمالي الحالات (الرسمية) المكتشفة في العام الماضي 481 حالة من مواطنينا فقط، وهذه كذلك لا تمثل معدلاً إجمالياً للإصابة في المجتمع. وبالنسبة للإدمان فإنه أسفاً في تزايد، حيث سجلت وزارة الصحة ارتفاع حالات الإدمان في مجتمعنا إلى أربعة أضعاف خلال الخمس السنوات الأخيرة، مما جعل وزارة الصحة تنشىء 16 مستشفى لمعالجة الإدمان موزعة على مختلف مناطق المملكة! إذن هل برنامج الابتعاث هو أحد أسباب السفاح والمخدرات أو الإيدز؟ أم أنه مناورةً جديدة لغرس لذلك المفهوم؟

لماذا لا يكون مناهضو الابتعاث منصفين عادلين في آرائهم ومنهجهم وبموضوعية دون سكب الكأس الممتلئ؟ أين هم من الأمس القريب عندما حول مبتعثونا مسرحاً في مدينة بنسلفانيا في أمريكا إلى جامع كبير يخدم أكثر من 500 مُصل من الجاليات المسلمة، يقيم الدروس الدعوية لحديثي الإسلام باللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى ممارستهم أنشطتهم الاجتماعية بتوزيع التبرعات والصدقات على المحتاجين من المسلمين؟ أين هم من مئات الأخبار المشرفة لإنجازات المبتعثين وتفوقهم وبراءات اختراعاتهم ومسابقتهم على المراكز الأولى في التفوق الأكاديمي والبحثي التي سطروها في سماء وطنهم ودول الابتعاث؟ لم نرصد لهم حالةً واحدة عبر منابرهم أن يشيدوا بإنصافٍ ونزاهة لتلك الإنجازات أو حتى إشارةً بشعور الفخر بهذا الشباب الملتزم بدينه ووطنيته والمؤثر بعطائه وسلوكه .

نحن لا ننكر أن هناك من أساء لدينه ووطنه من قلة ضئيلة من المبتعثين، لكنهم لايمثلون حتى جزءاً من ظاهرةً، يقابلها وبكل أمانة لمستها من خلال تجربتي العملية المباشرة في الملحقيات الثقافية رقابة تامة وتوجيهات صارمة ومتابعة من وزارة التعليم العالي ضد كل مايكتشف من ممارسات سلوكية تعبث بالدين أو الوطن أو الإنسان، لكن أن ننسف مشروعاً تنموياً واستراتيجية علمية وجهود دولة بقصص من هنا وهناك ـ الله أعلم بمصادرها وبمصداقيتها ـ لتكريس الأفكار المناهضة، وبالتفاف غير مقبول لا يحترم العقل، بجعل المبتعثين حنظلاً والابتعاث وأهدافه شراً مستطيراً، فهذا يجب التوقف عنده والرد عليه ولن نقبله ولن نقف له عرفاناً إلا إذا خرج مناهضو الابتعاث من عباءة الوصاية وتبنوا فقط دراسةً علمية (واحدة) تؤيد آراءهم لاسيما أن كثيراً منهم يحمل شهادات عليا نتأمل فيها معرفة لغة البحث العلمي وحقائقه.