كلما خطت الصين خطوة أخرى في مسار نموها التصاعديّ المذهل، قارنها العالم بالولايات المتحدة الأميركية تلقائياً، وتبعاً لهذه المقارنة يطرحون أسئلة مشوبة بالقلق أو توقعات ملتبسة بالأمل عن اليوم الذي تنحّي الصين فيه الولايات المتحدة جانباً وتصبح أكبر اقتصاد في العالم. ليس هؤلاء وحدهم المشغولين بهذا اليوم الميمون أو المشؤوم - حسب تطلعات كل فريق - بل إن الصين نفسها تبدو مهووسة بهذا الهدف فعلاً، لاسيما بعد أن تجاوزت اليابان وألمانيا وبريطانيا فعلياً من حيث الناتج القوميّ (وليس الناتج الفرديّ)، ليصبح غريمها الأساسي الوحيد الذي لم تتجاوزه بعد هو الولايات المتحدة الأميركية. وهو هوسٌ يمكن تتبعه بسهولة عند تحليل القرارات النقدية والتصريحات الاقتصادية والطموحات الإنتاجية الصينية التي تبدو وكأنها تضع هزيمة الولايات المتحدة الأميركية اقتصادياً كهدف قوميّ، وحتى أصبح الإعلان الرسمي عن الناتج القوميّ الصيني يكاد يحدث في نفس اليوم الذي تنتهي فيه السنة، حتى قبل أن تجف أقلام الإحصائيين وتُرفع صحف المحللين، في استباقٍ يشي بمقدار هوس الصين بالإعلان عن حضورها العالمي وهيمنتها الاقتصادية الوشيكة على حد تعبير المحلل الاقتصادي البريطاني، مارتن هتشنسون.

يناقش الاقتصاديون كثيراً هذا الاحتمال بمعادلاتهم ورسومهم البيانية، فيراه بعضهم أمراً متحققاً في المستقبل القريب ولا محالة، ويرى البعض تحققه معلقاً بعدة متغيّرات يصعب التنبؤ بها، بينما يراه كثيرون أيضاً ضرباً من المستحيل الاقتصادي. والحقيقة أن لكل من هذه الرؤى ما تستند عليه من حقائق. الراكنون إليه يعتمدون في ذلك على قراءتهم المباشرة لمعدلات النمو في الناتج القومي بين البلدين. فالصين نمت عام 2010 بمعدل يقارب ثلاثة أضعاف معدل النمو الأميركي، وهذا يعني - بحسابات مباشرة - أن اقتصاد الصين سيتجاوز نظيره الأميركي في غضون عشرين سنة تقريباً. ويعتمد هؤلاء أيضاً على قراءتهم للسطوة المتزايدة للاقتصاد الصيني على الاقتصاد الأميركي بسبب امتلاكه احتياطيات هائلة من الدولار الأميركي وسندات الخزينة الأميركية، مما يمنح الصين ورقة ضغط هائلة على القرار الاقتصادي الأميركي وقدرة على تهديده مباشرة بقرارات نقدية تتخذ في بكين فتهتز لها واشنطن. بالإضافة إلى السطوة الإنتاجية للصين على أميركا مع استمرار تسرب المصانع الأميركية إلى الصين واعتماد المستهلك الأميركي في حياته اليومية على منتجات تصنع هناك. وهذا يهدد أميركا من ناحيتين: أولاً، أنه قد يشكل ضربة موجعة للمستهلك الأميركي في حالة انقطاع هذا السيل الصيني من المنتجات التي اعتمد عليها طيلة سنوات. وثانياً، أن المنتج الصيني لم يعد مقتصراً على المنتجات ذات التقنية المنخفضة والرخيصة، بل تضاعف طموحه خلال سنوات حتى أصبح يهدد أميركا في عقر صناعاتها المتخصصة كالطائرات والأسلحة والشرائح الإلكترونية والمعدات الطبية. وهذه تهديدات لم تدر ببال الطرفين عندما بدآ في التبادل التجاري الجاد قبل أكثر من عشرين سنة تقريباً، فراحت الصين تصنع وأميركا تستهلك، في علاقة حقق منها الطرفان فوائد كبرى. فعليها اعتمد الاقتصاد الصيني في مرحلة الوقوف على القدمين واكتساب الخبرات التقنية وتغذية الاستقرار الاقتصادي، ومنها حقق الاقتصاد الأميركي مكاسب هائلة من انخفاض التكلفة الإنتاجية والتركيز على صناعات أكثر تقدماً والزحف باتجاه الاقتصاد الخدماتي. ولكن بعد كل هذه السنوات، بدأت الأعراض الجانبية لهذه العلاقة تظهر على السطح الأميركي متمثلة في ارتفاع معدلات البطالة في أميركا، واختلال الفائض التجاري بين البلدين، وتهديد الصين لأميركا في صناعاتها التنافسيّة.

ولكن اقتصاديين آخرين يشككون في احتمالية أن تطيح الصين بأميركا من قمة الهرم. فرغم معدلات النمو الصيني المذهلة إلا أن نمواً كهذا يستحيل أن يستمر لسنوات قادمة، ولا بد له أن يتباطأ يوماً وإلا وقعت الصين نفسها في مشكلات عديدة من فرط النمو لعل أقربها ارتفاع تكلفة اليد العاملة بسبب ارتفاع مستوى معيشة الشعب. كما أن الاقتصاد الأميركي لا يمكن له أن يستمر في تباطؤ النمو وإلا وقعت الصين نفسها أيضاً في مشكلة أخرى. فعندما يفقد المستهلك الأميركي (أكبر مستهلك في العالم) قوته الشرائية فمن سيشتري البضائع الصينية؟ هذا يعني أن الاقتصادين عليهما أن ينموا معاً أو يتراجعا معاً، وهذا يبطل فرضية التفوق الصيني المرتقب بسبب ارتباط الاقتصادين في علاقة تجارية مصيرية إلا في حالة نشوء علاقات تجارية جديدة مع أطراف أخرى وهذا أمر صعب التحقق. فليس في العالم قوة استهلاكية بحجم أميركا ولا قوة إنتاجية بحجم الصين. والتحالف مع تكتلات من الدول يوازي حجمها هاتين القوتين، استهلاكاً وإنتاجاً، هو تحالف لا يمكن أن تنفرد به إحدى الدولتين دون الأخرى. هكذا، فمن المفهوم أن تتقدم الصين على اليابان كون الفارق بينهما كان متقارباً نسبياً من حيث الحجم، وكلتاهما دولتان تعتمدان على الإنتاج الصناعي، ولكن أن تتقدم على الاقتصاد الأميركي فذلك الكثير. فالاقتصاد الياباني في أوج ازدهاره لم يكن يشكل أكثر من نصف الاقتصاد الأميركي. وبناء على ذلك فإنه يتعيّن على الصين أن تضاعف اقتصادها الحالي ثلاث مرات على الأقل مع اشتراط أن يدخل الاقتصاد الأميركي في غيبوبة طويلة أثناء ذلك، وعندها فقط يمكن أن تصبح الصين الاقتصاد الأقوى في العالم.

ولكن حتى لو تحققت هذه الظروف المستبعدة فسيظل هناك لاعبون آخرون في الميدان يمكن أن يغيروا مسارات اللعبة. فالقوى الاقتصادية الناشئة، كالهند والبرازيل، التي تملك مؤهلات قريبة من تلك التي اعتمدت عليها الصين في نموها وتتفوق عليها ببضعة مؤهلات أخرى، هي في حالة منافسة مباشرة مع الصين ذات الاقتصاد الصناعي وليس الغرب ذا الاقتصاد الخدماتي، ومن المحتم أن تنشغل الصين بهذه المنافسة الحادة عن هوسها بالتغلب على أميركا التي ربما، تبعاً للسياسات الاقتصادية التي ستتبناها في المستقبل، تكون أكبر المستفيدين من احتدام المنافسة بين الصين والهند والبرازيل. فالقاعدة تقول إنه عندما تتنوّع مصادر الإنتاج يربح المستهلك غالباً، لاسيما إذا أدار عجلة هذا الاستهلاك في مسار تنمويّ واستثماري.