في هذا الكون الكثير من المثيرات التي تمتزج في أعماق الإنسان لتشكل هويته الإنسانية، فكل ما يصدر عن الطبيعة من مثيرات ومؤثرات هي أشبه بالصدمات الكهربائية التي يجد نفسه مستجيبا لها على أية حال، فالحقائق بالنسبة إلى الإنسان هي أشبه بالصدمات، حتى تلك الحقائق العلمية التي تكّون حدا فاصلا في تاريخ الإنسانية بين ما قبلها وما بعدها.

ويحتاج البشر وقتا كي يمتصوا الصدمات التي مرت وتمرّ بهم، إلا أن مسألة الوقت هي مسألة نسبية تختلف من شخص لآخر، فهناك من يستغرق وقتا طويلا في الانغماس بالتفكير المؤلم، وهناك من يتجاوز الصدمة بعقلانية من خلال تقليص الوقت المتعلق باستيعابها والتعامل معها واعتبارها أمراً واقعاً لا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال، والإنسان بهذه الحالة يكون على جانبين من الحقيقة ـ وأقصد هنا الحقائق المجردة ـ فالجانب الأول هو لحظة اكتشافها التي غالبا ما تشوبها الدهشة بغض النظر عن ماهية هذه الحقيقة، والجانب الثاني هو الأمر المتعلق بطريقة التعامل مع كونها حقيقة، فالأسلوب لن يغير شيئا من حجم هذه الحقيقة، سواء أكانت جيدة أم سيئة، وربما تكون لحظة التعامل مع الحقيقة أهم بكثير من ماهية الحقيقة ذاتها، لأن التعامل مبني على أساس هذه الحقائق وتأثيراتها في النفس البشرية.

يفترض أن الإنسان مستودع خبرات، خبرات سابقة ولاحقة وحالية، وهذا يعني أنه دائم الخوض في التجريب؛ كي يكتسب الخبرة بما فيها من حقائق مؤثرة ربما سوف يعاني منها طوال حياته، غير أن العقل هو الحل، فالإنسان يسعى إلى المثالية في حياته، وعلى الرغم من أنه قد لا يحقق منها شيئا إلا أنه دائم السعي إليها من خلال سلوك يرتضيه، ولا سيما الحقيقة التي يفترض ألا تغيب هي استقلالية الإنسان في عقله وجسده وعاطفته، رغم تداخل العلاقات الإنسانية بين البشر الذي يحتم على الإنسان عدم التحكم في نوازعه تجاه غيره مما يحيط به من بيئة طبيعية وبشرية.

إن كلمة "الحقيقة" غالباً ما تأتي مرادفة لكلمة "الوجود"، فهما كلمتان قديمتان من أول ما نشأ في القاموس الفلسفي، وتبعتهما لاحقا كلمة "الذات" في القاموس الفلسفي الحديث، والتي تعني إدراك الإنسان لذاته ووعيه بإنسانيته، فأصبحت هذه الكلمات الثلاث من أكثر المصطلحات الفلسفية تداولاً وتأملاً وبحثاً، فكل واقع يعكس حقيقة معينة، إلا أن الثبوت النهائي والمطلق لا يتكئ على حقيقة منطقية دائما، منذ التصور الأرسطي القديم للحقيقة الذي يعني مطابقة الأحكام الذهنية للواقع المشاهَد، إلى التصور الهيغلي القائل بأن كل ما هو عقلي هو واقعي وكل ما هو واقعي هو عقلي بالضرورة.

الحقيقة ليست مجرد كلمة، إنما هي واقع مجرد يرتبط بأحكام وتصورات. والحقيقة بالتالي ـ كما يشير المفكر الكبير د.علي حرب ـ هي ممارسة للذات، ليست يقيناً معرفياً بقدر ما هي "منظومة تأويلية" تفسر وتوضح لكنها يجب أن تخضع للنقد والفحص والاستكشاف. وهذا ما يجعل الممارسات الإنسانية وطيدة الصلة بعلاقة الإنسان بذاته، إذ هي انعكاسات لتحقيق الذات بكافة الجوانب الطبيعية، ومن ذلك الجانب الجسدي وما فيه من شهوات، والجانب السلطوي المتعلق بممارسات السلطة والقوة، والجانب العلمي بصورته المنطقية، وكذلك الجانب المتعلق بالجمال والإبداع كتجسيد لتحقيق الوجود وتمثيل حقيقته.

ولذلك فإن تكوّن الحقيقة يتأرجح ما بين التصور والذات والخبرة. والإنسان يتأثر بخبراته السابقة مهما كانت هذه الخبرات بل إن الثورة العلمية الحديثة في مجال علم النفس تؤكد على أمرين في غاية الأهمية وهما الجانب البيولوجي والجانب النفسي، إذ هما يسيّران النفس برفقة الجوانب البشرية المشتركة والموجود في البشر كجزء أصيل من تكوينهم الطبيعي. ويشير حرب إلى أن (بايدو) صاحب البيان الفلسفي، فصل علاقة الإنسان بذاته قائمة وفقاً لأربع نقاط مؤثرة، وهي: العلم والسياسة والفن والحب.

فالشرط العلمي يتمحور حول الرياضيات خاصةً، كنموذج للمعرفة وصورة الحقيقة، والتي لولاها لما تشكل الخطاب الفلسفي كخطاب عقلاني، أما الشرط السياسي فهو مرتبط بابتداع أشكال الممارسات السياسية الديموقراطية التي هي عامل مهم لنشوء الجدل والكلام، وبالتالي نشوء وتطور واستمرار الفلسفة. أما شرط الفن ويمثّله الشِّعر بنحو خاص، على الرغم من أنه لا يمثل حقيقة بقدر ما يمثل محاكاة للحقيقة. وشرط الحب ـ بحسب بايدو ـ هو اللقاء المفاجئ بين الجنسين، في إنتاج ممارسة للاتحاد بين (الأنا والأنت) كشرط للفلسفة في خلقها ارتباطاً بين الحقيقة نفسها وسؤال الحب الحقيقي الذي يتوجه لكائن بذاته، أي أن ارتباط حقيقة الحب بحب الحقيقة.

ومن خلال ذلك نجد أن تصورات الحقيقة لدى الإنسان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسؤال الوجودي الفلسفي عن الحقيقة، والذي يحتاج من الإنسان للولوج فيه إلى العقل والتصور المجرد بعدم وجود حقيقة مطلقة، فالحقائق مهما كان تماسكها المنطقي والعلمي فهي قد تتغير.. فيكتشف الإنسان ضدها أحياناً.