روت لي أخصائية صديقة عن أم زارتها تشكو من تعثر طفلها الدائم أثناء المشي. فحصت الأخصائية الطفل، فاتضح لها أن الطفل تقريباً أعمى، وهذا هو سبب تعثره بالأشياء. أثناء المناقشة مع الأم عرفت الأخصائية أنها قد أخبرت بمشكلة عيون ابنها، لكنها غير مقتنعة بالتشخيص. فالأم هنا تعيش حالة من الإنكار كخيار للتعايش مع حال طفلها. فعندما تكون قدرات الإنسان النفسية والعقلية أكثر هشاشة من مواجهة السوء وإيجاد الحلول؛ فاللجوء للتعامي هو الحل الأسهل، ومع الإنكار كردة فعل لا يميل المختصون للتدخل، لمعرفتهم أن أول خطوات النهوض هو الاعتراف بالمشكلة.

الإنكار بحد ذاته أرض خصبة تغري للمكوث فيها ليس أفراداً بل مجتمعات، فنحن كعرب محاطون بحقائق من شدة سطوعها تشعر وكأن لها صوتا يصرخ، إلا أننا غالباً ما نختار طريقة " تصاممتُ فلا أسمع" لنحيا حالة مؤسفةً من الإنكار. فوضعنا الإشكالي وعلاقته الواضحة بمنظومتنا الثقافية لا تخطئه العين، ومع ذلك نصر على أن المشكلة ليست في الفكر بل في التطبيق، وهو تعليل يعكس عدم نضجنا الثقافي. فلو حقاً كانت المشكلة في التطبيق فمنطقياً طالما أنه لم ينجح أي مجتمع في عصرنا الحالي في تطبيق هذه المنظومة فلا بد من إعادة النظر فيها. ولا ننكر أننا في يوم ما كانت لنا حضارة بسبب هذه الثقافة، لكن لا ننسى أيضاً أن القيم بحد ذاتها تتطور، وقيمنا ومبادئنا ليست استثناء.

مثالٌ على حالة الإنكار هذه واقع المرأة العربية، فبالرغم من وجود فرق واضح للعيان لصالح الرجل يظهر في كل شيء، حتى في التقسيمات الحسابية ـ والأرقام كما نعرف لا تكذب، لكن كلما صدر تقرير من أي مؤسسة إنسانية حول واقعها نتبارى كأفراد ومؤسسات في تكرار أنشودة عدالة الحقوق وإشكالية التطبيق ـ إلا أن هذه الحالة تزداد حِدةً لنصل لمرحلة متقدمة بالهجوم على واقع نساء الأمم الأخرى، والحديث عن الظلم الضمني لهن في ثقافتهن مقارنة بوضع العربيات.

وبرأيي تبدأ هذه الظاهرة من واقع الفرد كوحدة أولى، فهو غالباً ما يعاني من أنماط تربوية تجعل قدراته الفكرية لا تنمو أو تنضج، فيقف على قاعدة نفسيه هشة، لا يستطيع معها مواجهة جوانب ضعفه فكراً وثقافة والسعي لعلاجها، هذا النضج الذي يجعل الإنسان يقوى على رؤية ذاته بدقة ومواجهتها؛ لا يصل إليه سوى القلة حتى بين المثقفين الذين يعزى لهم في كل المجتمعات مسؤولية الحراك الاجتماعي.