بعض الإصدارات التوثيقية تسحرك بسهولتها فتنساب عباراتها إلى الأعماق من غير استئذان خاصة إذا كنت عايشت مرحلة تالية لما تقرأ، وتعرف كثيرا ممن يرد ذكرهم بين الصفحات.. ضمن هذه الرؤية يندرج كتاب "شفت أبها" للفنان التشكيلي عبدالله شاهر الذي يبيّن أن ما يدوّنه ليس سوى ذكريات لا يلتزم فيها بالمتعارف عليه لكتابة الرواية أو السيرة الذاتية.

بجمال معشّق بالفوضى يمارس التشكيلي لعبة الكتابة، فيأخذ القارئ عبر أسطر تشابه التجريدية التي يحبها إلى الأحياء والشوارع ويغوص في الذاكرة المكانية والزمانية ليعرض صورة مترعة بالحنين إلى حيث كانت البساطة عنوانا للحياة في مجتمع متجانس حتى في فرحه وحزنه.

يعود عبدالله شاهر إلى منازل الطين والجيران الذين يكوّنون جزءا من الحياة اليومية لأي أسرة، تلك الحياة التي تختتم كل مساء عند التاسعة أو العاشرة، باستثناء ليالي السمر والأفراح. ويوغل أكثر ليصل إلى أمطار أبها حين تتواصل على مدى أيام، فتبدأ أسقف البيوت بتسريب المياه إلى الداخل، وتكون الوقاية منها بتجميعها في صحون وأوعية موضوعة تحت ثقوب التسريب، لينام أهل البيت على موسيقى تساقط القطرات. ويُكمل ليحدثنا عن "زايدة بنت علي" وهي تجلب الماء من بئر الوادي بالقربة لتزود أهل الحي بما يحتاجونه. ومع ذكر الوادي، ترتسم صورة وادي أبها بعد السيل واحتفالية الركض بين مياهه وصناعة الطرقات بالحجارة لمن يريدون عبوره. وتستمر الذاكرة بالنهل من الأمس ليصل إلى رائحة البارود يوم قصفت طائرات حربية مدينة أبها.. وينتقل بعدها إلى زمن المدرسة وحكاية التعليم آنذاك، فالمعلمون مخلصون لمهنتهم، ولهم يقدم المجتمع احترامه وتقديره كحال التعليم قديما في مختلف الدول العربية.

ولا يغفل الفنان التشكيلي وهو يرسم الكلمات لقاءَ الأهالي في المناسبات وممارسة طقوسهم التراثية على أشعار ابن عشقة والثوابي وابن ملفي وابن ناصر.. ثم يزداد التصاقاً بالمكان فيعرج قليلا على "ساحة البحار" و"السودة" و"خميس مشيط" وغيرها، ثم يشرح تفاصيل عن الأيام الأولى لوصول الأمير خالد الفيصل إلى منطقة عسير ومباشرته لمهامه في مقر الإمارة.. وإنشاء قرية المفتاحة التشكيلية بعد ذلك بسنوات لتكون تجربة ريادية في مجالها.

ولأن كل من التقاه يعرف روحه المرحة وحبه للمقالب، لم يشأ عبدالله شاهر إلا أن يعطّر الصفحات بفصول من شقاوته القديمة التي أحسبها ما زالت مستمرة. مختتما كتابه بمشاهد أبهاوية وصور من الزمن الجميل.

"شفت أبها".. تجربة كتابية مزركشة لفنان أحب أن يصب جنونه على شكل حروف، فانصبت ملونة بعبق التشكيل وسحر المكان.