ربما يكون المتحف هو المكان الأنسب لبعض النخب المتضخمة من حولنا، التي ما زالت تؤمن بأن الناس يهتمون بها وبما تقول، وينظرون إليها كأكثر الكائنات تعقلاً في المجتمع، لكن الواقع يشهد أن هذه النخب (تدنصرت) من كثرة الوقوف أمام الكاميرا، والظهور الباذخ في الصحف، حتى أصبحت تظن في نفسها الكمال والصوابية المطلقة؛ دون أدنى هامش متوقع للخطأ أو الزلل البشري المعتاد. فبعد أن فشل اشتغالها الطويل على كتب (قص ولصق) ودورات البرمجة اللغوية العصبية، ومحاولة إلهاء الناس بقضايا ثانوية تافهة؛ أصبحت تصادم المجتمع بآراء وتصريحات خارجة عن السياق كي تلفت الانتباه، ولكي تقول للناس إنها لا تزال موجودة وبصحة عقلية جيدة، ولذلك لم نشاهد منذ فترة طويلة نخبوياً يأتي بفكرة مفيدة تستطيع أن تشكل فارقاً حقيقياً يمكن البناء عليه في مجتمع أراد له النخبويون أنفسهم أن يكون متناسخ الأفكار والقضايا. ومع أن المجتمع بشكل عام ينظر إلى النخبويين كشخصيات اعتبارية عاقلة ومتزنة، وربما مساهمة في رسم المستقبل بالرأي والفكرة؛ إلا أن لبعض هذه الشخصيات تصرفات ومقولات خارجة عن السياق العام، لا يقترفها حتى رجل الشارع العادي والبسيط؛ صحيح أن هذه الحماقات غالباً ما تكون فردية ولا يصح احتسابها على المجموع العام؛ إلا أن الصحيح أيضاً أن بعض أفراد هذه النخب قد أفلسوا منذ وقت طويل، وأن ما يربطهم بالواقع هو مجرد مقولات غير منضبطة يجترونها من حين لآخر في وسائل الإعلام، دون أي جديد يمكن الركون إليه كفعل نخبوي مقنع ومؤثر. وما زاد الطين بلة أنهم يتوهمون باستمرار أن مقولاتهم نادرة وعميقة ولا تحتمل الخطأ، وأن واجب المجتمع ـ الجاهل في أدبياتهم ـ أن يُصغي لتلك التعاليم النخبوية المبتكرة، حتى لو كانت خارجة عن النص، بل وأن يتعلم من النخبوي قدر ما يستطيع، ولا يهم إن كان ما يقوله سعادته أو فضيلته خارج العصر أوالمنطق، أليس نخبوياً وفي العرف العام أن النخبوي هو (أبو المفهومية) وصاحب الكلمة الفصل؟ المدهش أن هذه النخب المتآكلة عندما تنتفخ من الضخ الإعلامي والمالي، والعلاقات المتنوعة مع شرائح تشبهها تماماً؛ تنفصل عن المجتمعات الصغيرة التي جاءت منها، وتنسى ما يفعله الأصلاء عادةً من الارتباط الوثيق بالجذور والتباهي بها، ومحاولة تحسين صورتها قدر المستطاع، وليس العكس، لكن ما يحصل لدينا أن بعض أفراد هذه النخب الديناصورية يشوهون حقائق مجتمعاتهم البريئة عند من لا يعرفها جيداً، ويمارسون الأستاذية الفوقية في الوطنية والانتماء على أقرب المقربين لهم بتعال واضح، ليس بقصد المساعدة والتثقيف، بل لاستعراض ما وصلت إليه الأنا المتضخمة من عنجهية وغرور معرفي، وهذا بالضبط ما يسمونه خيانة المثقف لمجتمعه الأم، وأيضاً ما يمكن اعتباره تشبهاً حقيقياً ـ كمثال ـ بشعراء البلاط البريطاني قديماً، الذين جاؤوا أصلاً من مجتمعات مهمشة ومتواضعة على الصعيد الاقتصادي والثقافي، وأغلبهم كانوا من طبقات دنيا وبسيطة، لكن بمجرد أن وصلوا إلى البلاط نسوا تماماً الأمكنة التي جاؤوا منها؛ بل وتنكروا لها تماماً، ووضعوا مواهبهم في خدمة شرائح اجتماعية أكثر تطوراً كما يعتقدون. المشكلة هنا أن طارق الحبيب ليس شاعر بلاط، ولا حتى حوش استراحة، ولا يوجد لدينا أصلاً شرائح حقيقية التمايز كما كان موجوداً في بريطانيا أيام وليم شكسبير ـ ولله الحمد ـ ومع ذلك يسيء الدكتور وفي سياق لا يستدعي أي إساءة، ثم يرفض أن يقدم اعتذاراً واضحاً وصريحاً لمن أساء إليهم، وهذه المكابرة في عدم الاعتراف بالخطأ هي عقدة نخبوية يقع فيها الكثيرون ممن ابتلينا بهم في وسائل الإعلام وعلى المنابر، إذ يعتقد هؤلاء أن الاعتذار يهز الصورة، ويبدي الكثير من المساوئ، مع أنهم يركزون كثيراً في أدبياتهم على الأثر الحميد والحضاري لفن الاعتذار، ويطالبون البسطاء بأن يعتذروا فوراً عند ارتكاب أي خطأ، فلماذا لا يطبقون ذلك على أنفسهم حينما يخطئون؟ ولعل أكبر دليل على أن بعض النخبويين ـ مجازاً ـ يقلبون ظهر المجن لمجتمعاتهم الأولى ويتعالون عليها؛ هو أنهم يغيرون لهجاتهم الأم بمجرد أن يعيشوا في مدينة أخرى لشهر أو شهرين، ربما لكي يقال عنهم إنهم أفضل وأعقل من خرج من ذلك المكان أو تلك الجهة، أو ربما لمزايدة رخيصة يظنون أنها قد تأتي بمنصب ليس في الحسبان. لكن جميع هؤلاء ينسون أن الزحف الزمني الذي نعيشه؛ ألغى تماماً دور النخبة القائد، والموجه، ولم يعد ثمة آباء (للمفهومية)، وحينما يمد الناس أعناقهم لرؤية نخبوي مّا فذلك من باب الفضول والعلم بالشيء لا أكثر، أو لأنه ارتكب حماقةً، وبالتالي فعندما تسمعون باسم نخبوي يتردد بكثرة ؛ فاسألوا عن الحماقة التي ارتكبها، وامضوا بعدها بسلام.