عندما تخرج أصابع الظلمة من مكمن كنت تظنه مخزنا للضوء، ومسربا للإشراق، يصيبك لحظتها ما يشبه الدوار والعصاب والصرع، إن الباعث على القلق والحيرة ذلك الدخان المتطاير من موقد الفحم الذي أشعلته المخيلة الملغومة لسعادة البروفسور طارق حبيب، الذي خانته دلالات ما يعتقده من النضج والتوهج والعمق، وسرقته اندفاعاته وارتداداته تحت ضغط الشخوص المعجبة، وبريق الشاشات، مما أوقعه فريسة للعطب كحالة مرضية، وأدخلته مناطق الارتباك وقصور الرؤية فأصبح الرجل يخلط بين معطيات الواقع ومعطيات الوهم ليهتز وعيه المضطرب، ولينغمر في تخوم المتاهات برؤية ضمنية تدينه وتدين سفاهاته التي قادته إلى مخاض متطرف جعله يهتك واحدا من قدسيات التكوين البشري وهو الولاء الوطني. لقد باغتنا السيد حبيب بحدسه ونبوءاته التي وزع من خلالها الولاءات العبثية والتأويلات الرصاصية وهو يطلقها عشوائيا لتجرح وجه الكرامة الوطنية وتلبسنا الفجيعة والمرارة. هل يدرك الدكتور حجم الثقل المشؤوم الذي طوح به كالصاعقة؟ فحرك فينا كهولة الطين وأيقظ ريح التجهم. لماذا لا تتسامى يا حبيب؟ لماذا لا تتسامى لنتابع الحياة في وطن يستحق الحياة. إن البشر الذين أهنتهم هم رموز الخصب والامتلاء الوطني حيث جئت لتقسم طاقاتهم الروحية، وحالاتهم الوجدانية، وروافدهم الجوهرية، فهذيانك الطافح بالجهل الاستعراضي المركب لن يلغي حضورهم المبهج، وتوقهم الحلمي، وتكوينهم الأعظم المزروع في خلايا الأرض ومسامات التراب الذي يبوح أسراره بما صنع آباؤهم وأجدادهم وما صنعوا هم من ملاحم صهرتهم بالطهرانية والأمثولة والفداء. حين وقفوا كالبيارق يذودون عن نسيج الوطن بكل أطيافه وتمازجاته في السهل والجبل والبحر والصحراء في الريف والمدن والحضر والبادية. لقد تراكمت المأساة أكثر حين امتشق الدكتور لغته المتمردة والمخاتلة ليقدم اعتذارا لأهله في الشمال والجنوب فكان اعتذارا مغلولا وضاجا بلغة تمريرية وتبريرية تستحضر عزائمه النفسية، وتراتيله اللفظية، التي تتناسل كالغبار ليواري عورته حين يقول: "نظرت كلامي لم أجد فيه خطأ ثم كررته مرارا فاكتشفت أنه ربما وقع الخطأ في تصور ما قلته لأسباب كان من أهمها استخدامي لـ"الوسطى" كمثال والرد على ذلك يسير لأني قلت في بقية العبارة عن إنسان الجنوب إن انتماءه إلى دول مجاورة أكثر من الوسطى، وأضفت الشمالية. إن نقص الانتماء الوطني يجعل الإنسان يرغب في جنسية البلد الآخر. أما نقص الانتماء النفسي فلا يجعل الفرد في حاجة إلى جنسية البلد الآخر"، ولم يتوقف الدكتور الحبيب عند هذه الشعوذات والظواهر الأسلوبية اللغوية الزئبقية ليبرر خطاياه الفادحة معتمدا على المذخور النفسي الذي علمه كيفية المراوغة، واللعب على المفاهيم والثنائيات الملتبسة فواصل توظيفه المريب، وطرائقه التعبيرية والصوتية حين جاء يكحلها فأعماها يقول سعادته: "تضايق بعض أهل الجنوب وكذلك بعض أهل الشمال ربما من ذكري انتماءهم إلى دول مجاورة. إن المعنى هنا ليس قصرا على الشمال أو الجنوب إنما جاء ذكرهم كمثال فكل مناطق المملكة لا ينتمون إلى الوطن بقدر انتمائهم لأخرى بما في ذلك نجد والحجاز، لذلك تجد السعودي الحضري ينتمي إلى أسرته أكثر من الوطن، والسعودي في البادية ينتمي إلى قبيلته أكثر من الوطن، والسعودي الملتزم ينتمي إلى الأمة الإسلامية أكثر من الوطن. رغم ذلك لا يعيبني بل يشرفني بلغة أهل الجنوب "مرحبا ألف" أن أقول عذرا مليون لأهلي في الشمال والجنوب لمن فهم كلامي على غير ما أردت قوله. مهما بلغ المقصود ومهما بلغ الأمر من نقص بي في العقل وسوء في النية فإني لا يمكن أن أشتم نصف شعب دولتي"، وأهلك يا دكتور طارق يقولون: كانت هذه رؤية وفلسفة عالم نفسي انحرف بكل منطقه ووعيه، وسعى لتقسيم وطن أصغى إلى وقع أقدام عبدالعزيز آل سعود وهو يعبر أرجاءه كرعود الشتاء على صهوة التاريخ ليجمع شتاته، ويوحد أطرافه، ولتذعن له الفلاة ورمل الصحراء وهامات الجبال وليشعل أعراس النهار، ومصابيح الشموس، وليحشد معه أبناء الوطن الواحد كأنصال السيوف يتحدون هجير المفازات، ورجفة الرمضاء، وتجاعيد الليل، وليصنعوا أول وأعظم وحدة عرفها التاريخ المعاصر، وتأتي أنت لتقسمه وتجعله كقطعة الجبن فأنت تقول: "مجتمعي مجموعة من أوراق القص واللصق ما إن ترتفع درجة الحرارة قليلا حتى يتفكك عقد تلك الأوراق عن بعضها بعضا" مرعب هذا المنطق حين يجردنا الدكتور من حب هذا الوطن الذي نعشقه ونحبه "منذ فجر الكون واخضرار اللون" ومرعب أشد أن أصدق أن وطني كما يصوره الحبيب علبة غراء وأوراق متناثرة!.