يتردد على مسامعنا أحياناً ما يُسمى بحكومة الظل (Shadow government)، فما هي حكومة الظل وماذا تعني على وجه التحديد، وما الدور الذي تلعبه، وكيف تعمل ولماذا ولمصلحة من؟ ظهر مصطلح حكومة الظل لأول مرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي منتصف الخمسينيات من القرن الماضي اعتبرته بريطانيا جزءاً أساسياً من نظام العمل السياسي فيها كأول الدول الحديثة التي تعترف به وتمارسه فعلياً. ويطلق البريطانيون على حكومة الظل "المعارضة الوفية لصاحبة الجلالة". وهي في أصلها حكومة غير رسمية موازية ومناظرة للحكومة الرسمية الحقيقية في الدول التي تتبنى المنهج والنظام الديموقراطي المتقدم. وتماثلها تماماً من حيث عدد الوزراء وطريقة التشكيل الوزاري ومسميات الوزارات. وتقوم بتشكيلها وتسييرها الأحزاب التي تأخذ مكان المعارضة السياسية في الدول التي تقر وجودها السياسي، وتأخذ حكومة الظل على عاتقها الانتقاد الممكن لعمل وأداء ونشاط الحكومة الرسمية الحقيقية بطريقة متحضرة تمثل الرأي المعارض، وتضع عين المواطن على مقربة كبيرة جداً من أماكن صُنع القرار، وتمكنه من المقارنة الواعية والجيدة بين ما تقوم به الحكومة الرسمية من أعمال وما تتخذه من قرارات على كافة المستويات داخلياً وخارجياً، وبين ما تراه حكومة الظل التي تقدم رأيها وانتقاداتها من موقع المعارضة بطريقة حضارية وموضوعية، وهي بذلك تعلن عن نفسها للشعب من خلال رؤيتها المعارضة والمنتقدة تحسباً للانتخابات المقبلة، وليس شرطاً أن تأخذ الحكومة الرسمية بكل ما تقوله أو تراه حكومة الظل، ولكنها قد تفعل ذلك في حال وجدت أنه أصوب من قراراتها في شأن ما. لكن نجاح نموذج حكومات الظل الوهمية الموازية لن يتحقق أو تكون ذات قيمة فعلية مؤثرة إلا في الدول ذات التاريخ الديموقراطي العريق كبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان على سبيل المثال لا الحصر، حيث يتناغم أداء حكومة الظل مع الحكومة الرسمية وبشكل علني أحياناً فيه الكثير من الوعي بالعمل الديموقراطي. الأمر الذي يسمو بفكرة العمل السياسي ويُرسخ مفاهيم النزاهة في نسق المجتمع بأسره.
لكن حكومة الظل تسقط عند صغار وجهابذة ورموز المعارضة العربية كمفهوم حقيقي له من الشفافية والحضور الذهني والأثر التطبيقي الكثير، الذي من شأنه أن يجعل منها أرضية خصبة لممارساته السياسية، ومنطلقاً يستطيع من خلاله النفاذ لعقلية المواطن العربي في عملية تخترق نمطية الممارسة السياسية المتخلفة، وتدريباً جيداً للمنتسبين للعمل السياسي لتصنع منهم حكاماً صالحين في المستقبل. لم أعرف أو أسمع عن حكومة ظل في أيٍ من الدول العربية، سوى تلك الفئات الحزبية التي ارتبطت بالتكوينات التآمرية ضد مصالح الشعوب، أو تلك التي تحيك وتفتعل المشكلات للحزب الحاكم. والتي يتردد الحديث عنها عادة في أروقة التلاسن الكلامي على صعيد واسع دائماً. ويبدو التناقض هنا على أشده فيما يُعنى بوعي العمل الديموقراطي النزيه وشروطه، إذ لا تستمد مثل تلك التكوينات التي تعمل عادة في الظلام شرعية وجودها من إعلان الكفاءة أو هم التنوير أو العمل الجدير والملهم، لأنها في الأصل تكوينات ذات هموم بغيضة تسمى المصالح الشخصية. فالهم ليس الوطن وليس المواطن بالدرجة الأولى قطعاً، والشواهد كثيرة على ذلك. وعند ذلك تشذ العملية السياسية عن قاعدة النضال المشرف إلى ممارسات غير جديرة حتى بكتابة مفردات وصفها. وتتحمل الحكومات الرسمية في تلك البلدان جزءاً مهماً من ظهور المعارضة في البلدان العربية على هذا النحو، إذ ونتيجة للأخذ بالنوايا والمحاسبة عليها تتشكل مثل تلك النماذج السياسية قهرياً، الأمر الذي يجعل من الهم الوطني المشترك هماً ثانوياً لا يعكس الوعي بالعمل السياسي. وذلك لا يلغي مسؤولية المعارضة العربية من التورط في القبح السياسي المنحرف، التي تساهم بقوة في الدفع بالأمور ناحية الشخصنة وتصفية الحسابات. يتندر الأديب العربي الكبير محمد الماغوط في قصيدة نثرية (حكومة الظل) فيقول: "وشكلت حكومة الظل.. طوارئ.. ورشحت لها: كل أنواع الورود في العالم لوزارة الشباب، والقمر لوزارة الكهرباء، والمطر لوزارة الري، والسنونو لوزارة المواصلات، ... إلخ"
هذا التهكم الذي يتجسد في قصيدة الماغوط عن مفهوم حكومة الظل العربية، هو واقع الحال للذهنية العربية المرتبطة بتركيبته الحياتية (التي تمت أدلجتها على نحو ما) ليس بالمصادفة طبعاً، والتي قُدر لها أن تقتنع بها سلماً أحياناً وكرهاً في أحايين أخرى كثيرة. (حكومة الظل الماغوطية) تبدو في الواقع على الرغم من هزليتها (حكومة تكنوقراط) خالصة، تضع الرجل المناسب في المكان المناسب، لكننا لا نرغب حتماً في رؤيتها على الأرض العربية. فهي موجودة أصلاً شكلاً ومضموناً. وبالمقابل لا نرغب في أن نشاهد حكومات ظل عربية تآمرية تقصم ظهر الثورات العربية الشبابية الأخيرة، وتسرق نبلها كما يحدث الآن في تونس ومصر واليمن. فقد نضطر للانتظار 50 سنة أخرى لتحقق هذه الدول ذاتها السياسية.