ما يحصل في اليونان حالياً من مقاومة داخلية لسياسة وخطة التقشف مصحوبة بخطط لحزم من الإصلاحات الاقتصادية لا يمثل اختباراً حقيقياً لقدرة ومستقبل اليونان كجزء من الدولة الأوروبية – إن جاز التعبير- فقط؛ وإنما تحد ومنعطف تاريخي لأوروبا، حيث إن النجاح في تجاوز الأزمة اليونانية سوف يحصن ويقوي الجبهة الأوروبية ويدعم نموذج دولة أوروبا في تكوين تحالف عقائدي وسياسي واقتصادي، يسمح للدول الأوروبية بتكوين تكتل سياسي واقتصادي يمكنها من رفع أدائها الاقتصادي وقدرتها على المنافسة عالمياً، وخصوصاً أمام الدول المتقدمة اقتصادياً في الفترة الحالية، وهي الولايات المتحدة الأمريكية والصين والهند والبرازيل. كان رفض الاتحاد الأوروبي وخصوصاً من أهم أعضائه وهي ألمانيا وفرنسا لتقديم مساعدات مالية لليونان دون شروط يمثل منعطفاً تاريخياً لفلسفة وسياسة الاتحاد الأوروبي في ضرورة إيجاد آلية لربط أي مساعدات مالية لأي عضو في الاتحاد الأوروبي؛ بالتزام ذلك العضو بإصلاحات اقتصادية حقيقية وتقديم ضمانات مالية، وهو ما تم في حالة اليونان.
رغم ما تسببت به الحالة اليونانية من تخوف مستقبلي في تردد وانخفاضٍ في ثقة المستثمرين في الاقتصاد الأوروبي، الأمر الذي قد يعني هروب رؤوس الأموال الداخلية إلى الخارج وبحثها عن بيئات استثمارية أكثر أماناً بالدرجة الأولى، إضافة إلى تردد المستثمرين الخارجيين بالاستثمار في الاقتصاد الأوروبي وغيرها من الآثار الاقتصادية السلبية – بطالة وركود اقتصادي، وتهديد مباشر لمستقبل الاتحاد الأوروبي؛ إلا أن الاتحاد الأوروبي وبقيادة ألمانيا وفرنسا أصر على استخدام خطط دعم ومساعدة ولكن بشروط عادلة لجميع الأطراف، مع تحميل العضو المدعوم جل المخاطر، فالمساعدات الأوروبية اشترطت على اليونان قبل اعتماد المساعدات المالية القيام بما يلي:
1ـ إجراء تخفيضات جذرية في النفقات الحكومية – الميزانية ـ على مدى السنوات الثلاث القادمة.
2ـ تخصيص – بيع – عدد من الأصول المملوكة للدولة للقطاع الخاص.
3ـ زيادة الرسوم الضريبية.
4ـ إجراء إصلاحات اقتصادية نوعية من شأنها القضاء على الفساد المالي في القطاعات الحكومية، مثل التهرب الضريبي، ومحاباة أفراد وفئات معينة في المجتمع، وتطبيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
5ـ تقديم ضمانات مالية مقابل المساعدات المالية.
كان هناك قلق أوروبي من أن تقديم مساعدات مالية لليونان غير مشروطة من شأنه تفاقم واستمرار الأزمة اليونانية من ناحية؛ وتسارع انفجار الأزمة في دول أخرى مثل إسبانيا والبرتغال، والأخطر تهديد وتقليل فرص نجاح التحالف الأوروبي. كان قرار التحالف الأوروبي وبداية التعامل بالعملة الأوروبية (اليورو) عام 2002 قراراً تاريخياً جمع شتات الدول الأوروبية بعد حروب طاحنة، تحالفاً ركز على عوامل القوى في هذه الدول، ومن أهمها توفر التقنيات والصناعات البنكية والعسكرية المتقدمة والموارد البشرية – وخصوصاً في دول أوروبا الشرقية – وتواجد أسواق جاهزة، إضافة إلى المركز الاستراتيجي للقارة بالنسبة للقارات الأخرى.
في المقابل ما هي الدروس المستفادة من التجربة الأوروبية ـ التي يمكن وصفها بالناجحة بكل المعايير ـ لبقية دول العالم وللتحالفات الحالية والمتوقعة في مناطق العالم الأخرى؟ وما هي الدروس المستفادة من تجربة اليونان الحالية، التي ما زلنا نعيش أحداثها، لبقية دول العالم؟ من هذه التجارب الحية والمرئية، يمكن استخلاص الدروس التالية:
1ـ عانت اليونان ولعقود من البطالة (حالياً 14.7%) والفساد المالي والإداري، ما تسبب في حالة من الكساد والتخلف، وكان انضمام اليونان للاتحاد الأوروبي يمثل بارقة أمل لانفراج الأزمة. إلا أن اليونان لم تستفد من انضمامها، حيث لم تقم بالإصلاحات الضرورية في جميع مجالات التنمية، وأهمها إعادة تطوير التشريعات والتنظيمات التي تضمن القضاء على الفساد بجميع أنواعه، وهو ما تسبب في تأخر العلاج، تأخر زاد من تكاليف العلاج، وصعّب قبوله من الشعب اليوناني وكذلك الأوروبي.
اليونان، مثلها مثل بقية الدول النامية، ومثلها مثل الإنسان، كلما أجل التشخيص رغم الأمراض المتلاحقة وبالتالي عدم البدء في العلاج؛ زادت الأمراض وصعب العلاج. ما يحصل من مقاومة للتغيير في اليونان هو نتاج طبيعي لتأجيل التشخيص والعلاج لمشاكل الدولة اليونانية، فاليونان كان يمكن أن تطبق علاجاً أسهل من خلال أدوية تقوي الاقتصاد قبل عشر سنوات، بدلاً من الدخول في عملية جراحية مؤلمة، وهذا ما ينبغي أن تتعلم منه الدول الأخرى.
2ـ النجاح المستمر للتحالف الأوروبي يمثل أنموذجاً ينبغي أن تتم دراسته والتعلم منه، ولعل من أهم الدروس المستفادة تتمثل في أن التحالف يمثل دمج كيانات بقدرات وقوى عسكرية واقتصادية وبشرية متنوعة لتشكل كياناً واحداً، ولكن بقدرات مضاعفة لا تتوفر – ولا يمكن أن تتوفر- لأي دولة في العالم، وهذا ما ينبغي استيعابه، فألمانيا تنازلت عن كبريائها، وفرنسا تناست تاريخها، لأنهما أدركتا ما يمكن أن تحققانه معاً ومع بقية الدول الأوروبية كتحالف استراتيجي، من حيث رفع الكفاءة الإنتاجية في الاتحاد من خلال الاستخدام الأمثل لعناصر الإنتاج وخصوصاً العنصر البشري ورأس المال، وتبادل المنافع والخدمات والتبادل التجاري، مع التعامل مع بقية العالم كسوق لتصريف خدمات ومنتجات الاتحاد. في نظرية التحالفات يتم التركيز على اختيار الأعضاء بحيث يتم تقليل التكلفة الكلية وزيادة المنفعة الكلية، وهذا ما ينبغي أن يقوم عليه أي تحالف، والتحالف الخليجي ليس استثناءً؛ فدول الخليج خطت خطوات مهمة وتاريخية، ويمكن بإعادة النظر في نموذج التحالف، وذلك بالتركيز على تخفيض التكلفة الكلية لإجمالي عناصر الإنتاج – البشرية والمادية ورأس المال – ومن خلال تقليل الاعتماد على عامل الإنتاج الأجنبي الذي يمثل أحد أكبر التحديات التي تواجه الاتحاد الخليجي، وأيضاً التركيز على زيادة المنفعة الكلية، ومن خلال زيادة الصادرات ولكن بتنويع مصادر الدخل، مع تقليل الاعتماد على النفط والغاز كمصدر أساسي للدخل في الاتحاد.