يقف المرء أمام موظفي بعض المؤسسات الخدمية كشركات الاتصالات أو البريد أو الكهرباء، أو يبقى منتظرا على خط الهاتف يشعر بالمخادعة ويلمس التحايل ولا حيلة له. وأحيانا يتعاطف معك الموظف ويحس بالجور الذي يقع عليك، إلا أنه النظام, وليس بوسعه إلا التقيد به. وتجد نفسك مقهورا، لا بد أن تدفع وإلا...

تتبنى هذه المؤسسات في التعامل معنا ما يشبه نهج القوات الأمريكية، وشركة بلاك ووتر، "أطلق النار أولاً ثم اطرح السؤال لاحقا". ونحن هنا يدفع العميل أولا ثم يطالب بما دفعه، مكرها، في التالي. والتالي هذا ليس إلى جانبك في معظم الأوقات، وتصلك عادة رسالة على هاتفك النقال، "عزيزي العميل لقد تم مراجعة اعتراضكم وتبين..... آمل قبول اعتذارنا".

تمضي أشهر بعد أن تنفصل عنك خدمات الهاتف أو الإنترنت، لكن فاتورة الخدمة المقطوعة تستمر في الوصول، ولا بد أن تسدد، ولن يسمع منك قول قبل التسديد، ربما ولا بعده! وستلاقي الأمرين قبل التخلص من خدمات أصبحت فرضا، ودائما بعد التسديد.

وخدمات الرسائل الهاتفية قصص أخرى. "أرسل كلمة مغفل إلى الرقم المدون، واحصل على أسبوع مجاناً" من نغمات الهاتف أو أخبار المناطق أو اليانصيب. وما لا تعرفه، أن بعد الأسبوع تبدأ مشوار المعاناة للتخلص من اشتراك لا ترى له نفعا، وقد أوقعوا بك في حبائله. قد تمضي أيام أو أسابيع من المماطلة قبل أن تتمكن من التخلص من هذا المتطفل.

وبمكالمة هاتفية وفي أقل من عشر دقائق تجد نفسك قد وقعت عقدا مع الشركة، وفي أقل من أربع وعشرين ساعة تجد موظف الشركة واقفاً على بابك لتفعيل العقد، أجهزة الاتصال والأسلاك وكراس الإرشادات.. وفي يده الأخرى سند الاستلام، الذي بتوقيعه تضع بيدك الحبل على عنقك، ولن تفلت منه إلا بشق الأنفس، وبعد أن تدفع.

غادر الموظف وذهبت فرحا بإنجازي، وكانت خيبة أمل. وبقيت خيبة أمل لأكثر من أسبوعين وأنا أتنقل من خيار في قائمة الرد الآلي إلى آخر، ومن مكتب للهاتف إلى ثان وثالث، حتى تمكنت من الاتصال بالعالم الخارجي عبر الخدمة الجديدة، بعد نصف شهر، وها هو قد تعطل، بعد يومين وللمرة العاشرة. إلى هنا ويعتبره الكثير من ضرائب العيش في المدن الحزينة. لكن ما لا يستطيع المرء فهمه، أن تصلك الفاتورة وقد احتسبت الخدمة من اليوم الأول، يوم استلمت الجهاز، لا من تاريخ وصول الفرج بالولادة القيصرية!

لماذا تفعل شركات الاتصالات وغيرها هذا؟ في سوق مفتوحة، قائمة على مبدأ التنافس، وفي وقت تعددت فيه الشركات التي تقدم هذه الخدمات. لا أجد جوابا، وكل شيء غير!

وعندما تقف أمام موظف البريد لتؤجر صندوقا في المكتب خوفا من ضياع بريدك المعنون على البيت، يسألك عن نوع الخدمة، وتظن أنه يسألك عن الاشتراك في خدمات مفيدة، كأن يبعث برسالة إلى هاتفك عند وصول بريد مسجل أو لتذكيرك عند امتلاء الصندوق. وتفاجئك الخيارات المتاحة؛ فإما بريد شخصي لا يقبل إلا ما يحمل اسمك صراحة من الرسائل، ويرفض ما دون ذلك، حتى ولو كانت رسالة لابنك أو زوجتك، وتدفع لهذه الخدمة سعرا "مخفضا"، فقط 100 ريال سنويا. وإن شئت إضافة ثلاثة أسماء، لا يقبل الصندوق غيرها، فالسعر أعلى. وإن جعلت الصندوق مفتوحا يقبل كل ما يصل إليه فلا بد أن تزيد فيما تدفع. أصبحت وكأنها شرائح تسعيرة المياه والكهرباء.

أما مشروع واصل، فأعجوبة الزمان! تدفع فيه للا شيء.

لماذا أدفع لاستلام رسالة وقد دفع المرسل قيمة الخدمة مسبقا؟ لا ندري.. سلوك يرده المنطق ويرفضه العقل. وعلى النقيض، فالاشتراك في صندوق البريد يوفر على المؤسسة كلفة التوصيل إلى عناوين مختلفة، ويجمع كل شيء لعامل البريد في مكان واحد. لكن يرى الحكيم أنها زيادة في الخدمة أن يضع عامل البريد الرسالة في الصندوق، وكأنما كان سيلقي بها في أقرب حاوية! عندما تدفع أجرة البريد، فقد دفعت كاملا، ما يضمن وصولها إلى حيث العنوان المدون. لماذا يدفع المتلقي لاستلامها؟، هل سبقنا إلى هذا أحد؟

وفي مشروع واصل، تدفع للصندوق رغم أن البيت بيتك، والجدار جدارك، ولا تمتلك مؤسسة البريد من المهرجان سوى علبة من الصفيح يضع فيها عامل البريد رسالتك. ما الفرق في أن يضع الرسالة التي تحمل عنوان المنزل على مقبض الباب، أو يطرحها على عتبة المنزل، أو يلقي بها في الصندوق المعدني؟... وكأنه لا ينوي إيصالها؟

لو كان السعر رمزيا يغطي تكلفة الصندوق و"صيانته" لكان إنصافا، لكن ما نراه خداعا وتعسفا. ولعل قائل بأنها بضع ريالات لا تحوج إلى كل هذا.. وهذا بالضبط هو الموقف الذي ينسجون فيه شراكهم.