ألجم الخجل شاعر النشيد الوطني السعودي الملقب بجواهرجي الأغنية السعودية إبراهيم خفاجي في حفل التكريم الأخير الذي نظمه نادي مكة الأدبي له، والفنان محمد عبده يثني عليه معترفاً بأفضاله عليه ودوره في تشكيل ورسم ملامح مسيرته حتى غدا مغني السعودية الأكبر في التاريخ الحديث.

واختار الخفاجي "الوطن" ليعبر عن امتنانه لكلمات عبده ووفائه وحبه المستمر منذ سنوات طويلة تنيف عن الخمسة عقود. وقال الخفاجي: لا أدري كيف أبدأ وماذا أقول، فلدي الكثير من أشياء في نفسي أريد أن أقولها وأسطرها ولكن هناك أشياء لا يمكنني تجاوزها لأنها تتعلق بإخباريات خاصة. فمحمد عبده رحلة كفاح وعصامية مستحقة للتقدير والاحترام، إذ ولد في أسرة يعولها رجل كان يصطاد في البحر، صاحب سفينة شراعية يكد عليها، حتى توفي رحمه الله، فنشأ محمد وإخوته من بعده أيتاما تكفلهم والدتهم برعايتها حتى نشأوا النشأة الصالحة.

وتابع خفاجي: التحق عبده بالمدرسة وبعد انتهاء مشواره الدراسي دخل مدرسة الحياة الكبرى فثابر وجاهد وشدد العزم وتعلم العزف وأتقنه دون مدرسة موسيقية، وأتقن فهم النوتة الموسيقية بنبوغ العصامي الذي بنى نفسه، فكان له ما أراد. صاحب الشرائح الشعبية بكل مكوناتها، جالس الأمراء والوزراء وكبار رجال الدولة، وصاحب المثقفين وتعلم الكثير والكثير منهم، مما انعكس على شخصيته وسلوكه، جد واجتهد حتى ذاع صيته وانتشر فنه، فهو السفير المخلص لبلده في حمل رسالة الفن إلى جميع أقطار الدنيا، حيث أبدع في إيصال الكلمة السعودية بسائر لهجاتها وتراثها، فهو أول من غنى السامري وطوعه للألحان الجميلة بالشعر النبطي، وهو أول من أجاد الغناء في كافة ألوانه النجدية والشمالية والجنوبية والشرقية والحجازية، وهو من حفظ لإخواننا في اليمن على تراثهم من الغناء، ولم يكافأ على ما قدمه لهم، وكان الأجدر أن تعطى له الدكتوراه لجهوده الخيرة، وهو الذي أتقن اللهجة الحجازية في المجسات والدانات والطرق الغنائية القديمة والمجرور والحدري والفرعي والمجالسي والتي ظهر فيها في تلحينه أوبريت الجنادرية (العرائس الخمس).

وأضاف خفاجي: دون أن أقلل من جهود الزملاء الفنانين الآخرين لكني أتكلم عن الواقع بعيدا عن العاطفة فمحمد عبده جعل الأغنية السعودية تسمع ويتغنى بها، وهو أول من شيد أستديو يسجل فيه هو وزملاؤه، فمحمد عبده هو الأخلاق والمحبة والمواساة لعموم إخوته الفنانين سواء كانوا مرضى أو لهم واجب، فتجده يبارد إلى زيارتهم ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، ناهيك عن ثقافته المميزة وتواضعه فهو لا يتكلم عن نفسه، هو فنان العرب ولا فخر، تذكره الأجيال.

ولفت خفاجي إلى الدور الإنساني الاجتماعي لمحمد عبده قائلا: هو التاجر صاحب المشاريع الذي يعمل لديه أكثر من ألفي موظف يتقاضون منه رواتب شهرية يعولون بها أسرهم.

وعن أجمل صفات محمد عبده إضافة إلى ما ذكر قال خفاجي: إذا وعد لا يخلف موعده، وكنا نخاف منه حين نتكلم لأننا نعرف أنه (الريكوردر) يحفظ ما نقول من حيث لا نعلم، وإذا كان قد ذكرني مرارا وتكرارا وأنني قدمت له تحيات جميلة في حياته الفنية، فأقسم بالله العظيم أنه هو الذي بنى نفسه بنفسه بعد الله، وبمثابرته وجهاده ولا يزال.

ويسترجع خفاجي أزمنة قديمة منذ أول لقاء بينهما في تاريخ فر من ذاكرته ولكنه يقدره بما يناهز الستين عاما قائلا: كان لي صديق يعمل معي بوزارة الزراعة اسمه عطية عرفني عليه قائلا بأنه فنان واعد، فأسمعني شيئا من الغناء فرأيت في صوته جمالا وقوة، ومن هنا بدأت الصداقة، فتعرف على الفنان طارق عبدالحكيم، وكان معنا الشاعر ناصر بن جريد وآخرون، فكان يمر علينا في سوق الليل بمكة، يركب سيارة من جدة بثلاثة ريالات ويأتينا، وأحيانا، نذهب للهدا في الطائف. وواضب على الحضور إليَّ هنا في منزلي عندما كان (حوشا) سميناه (حوش الإنسانية).

أما أول أغنية غناها محمد من كلماتي فهي:

(ياللي ما فكرت في روحي

ياللي ما تعطف لنوحي،

أنت يحلى لك عذابي في الهوى

وضعفي وجنوحي)، لحنها طارق عبدالحكيم الذي استمر التعاون معه حتى لحن (لنا الله) وهي أغنية لها قصة، إذ كان المفروض أن يغنيها طلال مداح، حيث كانت هناك مشكلة بين طلال وطارق، فأحببت أن أتوسط وأصلح بينهما، فكتبت هذه الأغنية ليغنيها طلال، لكنه لم يغنها، بعد أن لحنها طارق وظلت بحوزته ستة أشهر، فكلمني طارق وطلب إعطاءها لمحمد عبده فوافقت وهكذا غناها محمد ومازالت حاضرة ومسموعة ومطلوبة حتى اليوم رغم السنوات الطويلة التي مرت على أول ظهور لها.

وهنا يتوقف خفاجي عند علاقة العملاقين طلال ومحمد من جهة، وعلاقته بهما من جهة أخرى قائلا: أولا طلال لم يعش معاناة محمد، ثانيا الناس تتكلم عن أشياء لا تعرفها، ما بين الاثنين كان تنافسا شريفا أثرى الأغنية المحلية، لكن الناس تسيرها العاطفة هذا طلالي وهذا عبداوي.

لكن أنا فنان والفنان لا يميل لفنان آخر، أما محمد عبده كصديق له مكانته في قلبي، لكنه كفنان لا يزيد عن الناس، بدليل أنني تعاونت معه وكتبت لطلال الذي غنى من كلماتي، وأنا لا أستطيع أن أفضل طلالا على محمد أو محمدا على طلال في التعامل الفني، لكن كصديق لا.

وهنا أباغته بسؤال: يعني محمد كان أقرب لك من طلال؟

فيرد من فوره شبه منفعل: لا لا بالعكس، الكفة متوازية، والاثنان كانا عندي يحضران معا، وياما اجتمعنا ثلاثتنا وقضينا أوقاتا مليئة بالمحبة والأخوة وبهجة الموسيقى والفن.

غنى محمد عبده عشرات الأغاني من كلمات إبراهيم خفاجي من أشهرها (أشوفك كل يوم وأروح) و(أنت محبوبي) و(مالي ومال الناس) و(ظبي الجنوب)، وعن آخر ما تغنى به محمد عبده من كلماته قال خفاجي: أغنية (كوكب الأرض) وهي أغنية نستطيع أن نصفها بالوطنية لكنها فريدة من نوعها يقول شطر منها:

(كوكب الأرض

عزيز في المسار

وبلاد النور غرة كوكبه

بعث المختار فيها واستدار

هذه هي بلادي

في الحواضر والبوادي

مهبط الوحي الأمين

وأمان الخائفين).

وهناك نصوص كثيرة لا أتذكرها الآن موجودة لديه، فالفنانون يخزنون ويخرجون في المناسبات.

ومن المواقف التي لا ينساها خفاجي في مسيرة علاقته بمحمد عبده قصة أغنية (من فتونك والدلال) التي يقول عنها: هي أغنية كتبتها في خمس دقائق، كان حسن دردير يشتكي من مرض، فطلب أغنية لينتجها، فكتبت ولحنها طارق في خمس دقائق، وغناها محمد وأصدرها دردير في أسطوانة، كان ذلك في الستينيات الميلادية.

أما عن النص الذي أخذ منه وقتا أطول في كتابته فهو كلمات النشيد الوطني (سارعي للمجد والعلياء) يقول خفاجي:

كلمات السلام الملكي أخذت مني ستة أشهر، وأعتز كثيرا أنني قدمت لبلدي تحية جميلة بهذه الكلمات.


لا خوف على التراث

ويعتبر خفاجي مرجعا مهما فيما يتعلق بالتراث الغنائي لشبه الجزيرة العربية، فحول ما يردده البعض حول فن الدانة، واختلاف أدائها ما بين أهل مكة وأهل المدينة المنورة، ذهب خفاجي إلى أن أهل المدينة زمان لا يجيدون الدانة، الدانة فقط في مكة، ولد المدينة كان يؤدي الموال العراقي والغناء السوري، والدانة مرتبطة بيماني الكف حيث أنشأه يمن البيتي من حارة الشبيكة. أما غناء الصهبة وهو فن الموشحات الأندلسية فمكة كلها تغنيه (كنا أنا وعيال عبدربه وعبدالعزيز محضر والسيد علي يوسف نجتمع نغني) أغاني الصهبة، وهي ثلاثة أنواع، فنوع يسمى الذكري، والنوع العادي الذي كان يغنيه المحضر، ونوع ثالث اختص به أهل السليمانية بقيادة إبراهيم الحوراني.

أما فن الصوت المعروف في منطقة الخليج، فالخليج تاريخه الفني يكمن في البحرين، فالصوت البحريني أو الكويتي فيه ألحان كثيرة كالخماري والطنبور وألوان كثيرة لا أتذكرها الآن. الصوت طريقة عزفه مختلفة، والعلاقة بين الصوت والدانة تختلف باختلاف الطريقة، لكن الفن بعمومه ليس له وطن، فهناك من يعتسف ويقول هذا عراقي أو يماني، أو حجازي، لكن كلها في النهاية فن عربي جذوره واحدة، الاختلاف فقط يكون باللهجات والطرق، وأساليب الأداء. وفي ظل كل المتغيرات، واختلاف الواقع الموسيقي، وخشية البعض على اندثار التراث يقول خفاجي واثقا: لا خوف على التراث من الاندثار، فالآن توجد صحوة، وتتمثل هذه الصحوة في الأناشيد، فالآن أغلب الفنانين اتجهوا للأناشيد (المجسات) وهي عمق التراث. ولا تنسى أن التراث الموجود في مكة هائل وقوي ويؤثر في الكاتب والشاعر والفنان فالمجتمع المكي فيه من الثراء ما لا يمكن حصره.


سيرة


إبراهيم بن عبدالرحمن بن حسين الخفاجي

ولد بمكة بحي سوق الليل عام 1345.

التحق بمدرسة الفلاح بمكة ، ثم مدرسة اللاسلكي وتخرج منها عام 1364.

كأبناء جيله تابع حلقات الدراسة والتعليم في المسجد الحرام على أيدي العلماء.

تنقل في عدة مدن وقرى المملكة وطاف أرجاءها مفتشا بوزارة الزراعة.

عاد إلى مكة منقولا إلى قسم الأخبار بالنيابة العامة عام 1373.

ابتعث إلى مصر وتحصل على دبلوم في المحاسبة عام 1962.

المفتش المركزي بالمنطقة الغربية لوزارة الزراعة كانت آخر وظائفه عام 1389 هـ قبل طلبه التقاعد.

كتب كلمات أوبريت الجنادرية عام 1995 (بعنوان عرائس المملكة) وما زال المراقبون يعدونه واحدا من أجمل ما كتب في تاريخ الجنادرية.

كرمته الحكومة السعودية على أعلى المستويات، كما كرمته جامعة الدول العربية ضمن رواد العالم العربي.


ليلة الكباب الحلو

تختزن ذاكرة إبراهيم خفاجي حقبة زمنية عاشها على مدى أكثر من ثمانين عاما تلخص واقع الحياة الاجتماعية والحركة الفنية في مجتمعه. ومن خلال نشأته في حي (سوق الليل) الذي كان عامرا بالفنون و الموسيقى والألوان الغنائية، وفي هذا السياق يقول خفاجي: كان الغناء سائدا في معظم الحارات المكية التاريخية، فالشبيكة كانت الأولى في غناء (يماني الكف)، ثم آلت الشهرة (للنقا) وهو حي اشتهر بـ (العناترة)، وكذلك (جياد) و(المسفلة). أما (الشامية) فكانت حي العلماء والمترفين، ويروي ضاحكا: أذكر أنهم في ليلة أولموا لنا، وعندما رجعنا لحينا سوق الليل رحنا نخبرهم بأن أهل الشامية صنعوا لنا نوعين من الكباب واحد مالح والآخر حلو، وكنا نقصد بالحلو الطرمبة (بلح الشام) حيث لم نكن نعرفها من قبل.


من اللقاء

سامي إحسان من الفنانين الكبار جدا الذين لم يعطوا حقهم. مثله مثل عمر كدرس وجميل محمود وداود هارون.

عبده مزيد أول من كتب النوتة في السعودية وهو أيضا فنان كبير.

غازي علي موسيقار مهم جدا وحدث عنه ولا حرج وما زلنا نتذكر روائعه (روابي قبا) (شربة من زمزم) وهو فنان خالد.

محمد عبده لم يلتق بعمالقة الطرب حسن جاوا وسعيد أبوخشبة وحسن لبني لكنه سمعهم عن طريقي بواسطة التسجيلات.