يستحوذ الطلل، وذاكرة التراب، وفوح الرغبة الموجوعة، وهذيان المواقد المطفأة، ومخاض الليالي الراحلة على شظايا الروح، وارتخاءات الكلام الحزين عند شعراء العربية فيستمطرون الغياب والفقد، ويرتجفون على حافات الصخور الداكنة، ورماد الأمكنة المهجورة، فيظن البعض أن الوقوف على الأطلال نزعة جاهلية، وانكسار تراثي قديم يغترفه ذلك الشاعر الذي يطلق قصيدته كالطريدة، ويسيجها بدموع تعرش على جدران الريح التي تعبث بجمر الشتات والمجهول، ولكن الشاعر المعاصر لم يستطع الفكاك من تنهدات الطلل، واندحارات الرحيل، فاستبدلها برثاء المدينة حين عبر إليها فغرق في أزمنة التيه والغربة يحمل شجنه من القرية كرحيل مضاد. ولذا فلا لوم على شاعر الأمس حين ينعى الطلل، يقول ابن قتيبة في كتاب الشعر والشعراء ( سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدّمن والآثار فبكا وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذا كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان)، وقد شرح الأبعاد الفنية لهذا الاتجاه لدى شعراء العربية القدامى مصطفى عبدالواحد، حيث جعل الأولية لامرئ القيس في الوقوف على الأطلال بناء على ما قاله ابن سلام الجمحي في طبقاته: "إن امرأ القيس أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى"، رغم أن امرأ القيس يعترف بالسبق في ذلك لشخص يدعى ابن حمام وقيل ابن خذام حين قال: عوجا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خذام. وقيل إن أجود الابتداءات هو قوله في معلقته "قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل"، وقد تتبع عبدالواحد أبرز الشعراء الذين وقفوا على الأطلال سواء في الجاهلية أو الإسلام، فالنابغة الذبياني يقول: عوجوا فحيوا النعم دمنة الدار ماذا تحيون من نؤي وأحجار. وأما الأعشى وهو من شعراء اللهو في الجاهلية فإن مقدمته الطللية كما يقول عبدالواحد لا تكشف عن عاطفة ولا تعبر عن حزن بل إنه يبدؤها بالتعجب من هذا الوقوف والإنكار عليه إذ يقول: ما بكاء الكبير بالأطلال وسؤالي وما ترد سؤالي، ويقول لبيد: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها، ويقول طرفة بن العبد: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، ويقول عنترة: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم، ونجد هذا الوقوف الطللي عند "الحارث اليشكري وعمرو بن كلثوم وعبيد بن الأبرص وحسان بن ثابت والفرزدق وذي الرمة وأبي نواس وأبي تمام والبحتري والمعري والمتنبي وهو أقلهم وقوفاً على الأطلال".