قبل يومين، استقبل العالم دولة السودان الجنوبي، هذا العضو الجديد الذي انضم بأجواء كرنفالية عالمية صاخبة لنادي العالم الذي أصبح يتكون من 193 دولة، ويبدو أن الأمر مرشح للزيادة في الأيام القادمة، واليمن "السعيد" هو المرشح القوي لإحداث تلك الزيادة المتوقعة، حيث يعيش هذا القطر العربي العريق أياماً عصيبة، بل استثنائية، قد تحوله إلى أشلاء متناثرة تُسيطر عليها القبلية والطائفية بعد أن كان المثال الناصع للوحدة العربية المنشودة، ولكن يبدو أن الصراعات الدائمة بين الشمال والجنوب، خاصة في ظل الشعور الذي لا يُخفيه الطرف الجنوبي، أو ما يُطلق عليه بـ "الحراك الجنوبي" بحالة الغبن والتهميش والاستئثار بالسلطة والازدراء من قبل الحزب الحاكم الذي يتزعمه الرئيس اليمني الذي يعيش ظروفاً صحية صعبة.

والحال نفسه تقريباً في الكثير من الدول العربية التي تشهد "ربيعاً عربياً" لا مثيل له خلال العقود العربية الماضية. فتونس التي أشعلت فتيل الثورات والاحتجاجات العربية قبل عدة شهور، ما زالت تدور في دوامة المطالب الشعبية التي من أجلها قامت هذه الثورة الملهمة، فالتقارير التونسية المستقلة صادمة، بل ومحبطة، فمعدلات الفقر والبطالة والأجور والعمل والهجرة لم تتغير، بل تزداد سوءاً، ولم تستطع ثورة الياسمين، هذه الثورة الخالدة التي سيفرد لها التاريخ الإنساني والحضاري الصفحات تلو الصفحات، متغنياً بما ألهمته لكل الشعوب، أن تحقق ما وعدت به حتى الآن. بعد الثورة، لم يشعر المواطن التونسي البسيط بأن ثمة شيئا قد تغير. نعم، تخلص الشعب من نظام ديكتاتوري حكم البلاد لعقود طويلة، وتنفس "التوانسة" أخيراً هواء الحرية والكرامة والعدل، ولكن الحرية وزميلاتها من تلك المفردات البراقة التي يحملها الثوار الأحرار هنا أو هناك، بدون رغيف، أشبه بعملة ذات وجه واحد، وهي على الأغلب عملة لا قيمة لها.

أما مصر، أرض الكنانة، فقد انهالت عليها الإشادات وعبارات الإعجاب من كل العالم، فثورتها الرائعة التي يستحقها هذا الشعب العربي العظيم الذي انتظر طويلاً ليحقق أحلامه وتطلعاته وطموحاته، ولكي يُعيد لهذه الأمة الرائدة بعضاً من مكانتها ووهجها الحضاري والإنساني، ولكن الثورات فيما يبدو، لا تصنع المعجزات الحقيقية، ولا تحقق المطالب المستحقة. الثورات، تُعيد للإنسان الحرية والكرامة والمساواة والعدل، وغيرها من الشعارات الذهبية الرنانة التي يزدحم بها قاموس الثورات البشرية. كل ذلك جيد، بل رائع، ويستحق التضحية من أجله، وهذا ما فعله شباب ميدان التحرير في مصر، بل كل الثوار في العالم، ولكن ماذا بعد؟، لقد "انفض السامر" كما يُقال في مصر، ولم تتغير الأوضاع السابقة، بل إنها أكثر سوءاً، كما تُشير الكثير من التقارير والدراسات المصرية المستقلة.

ولا يختلف الأمر كثيراً في ليبيا، فالمجتمع الدولي ـ فضلاً عن غالبية الليبيين ـ مصمم على إزالة حقبة القذافي من ذاكرة ليبيا، بل والعالم بأسره، فهذه الحقبة المظلمة من تاريخ هذا البلد المقاوم الذي سطر أروع الأمثلة في الجهاد والتضحية والعنفوان، وأشاد بمقاومته الباسلة العدو قبل الصديق يرزح منذ أربعة عقود تحت نظام دولة هلامية، تغيب عنها كل أبجديات الحكم المتعارف عليها دولياً وتاريخياً، نظام بلا نظام، ودولة بلا ملامح دولة. لقد استطاع القذافي أن يختطف أحفاد عمر المختار لأكثر من أربعة عقود. ولكن، عدة أسابيع، أو أشهر، ويُضاف اسمه ـ أي القذافي ـ إلى قائمة الرؤساء العرب المخلوعين، وينعم الليبيون بشيء من الحرية والكرامة والاستقرار، ولكن ماذا بعد؟، هذا السؤال الذي يُلاحق الثورات والاحتجاجات العربية هنا أو هناك.

وماذا عن سوريا؟، يُحدثني صديقي السوري الذي أفضل عدم ذكر اسمه خوفاً عليه، بأن الأوضاع في بلده تتجه نحو المجهول. صديقي هذا، مسيحي عربي سوري ـ كما يحب أن يصف نفسه دائماً ـ ويعمل مديراً لإحدى الشركات السعودية الكبرى المتخصصة بقطاع المفروشات والأثاث في مدينة الخبر منذ عدة سنوات، يؤكد لي باستمرار. "لست مع النظام أو ضده، ولكنني خائف من المستقبل"، تلك كانت جملته الأخيرة قبل أن يستأذن مني بلطف لإغلاق أبواب المعرض.

قد يظن القارئ العزيز بأنني ضد تطلعات وطموحات الشعوب العربية التي تنشد الحرية والكرامة والعدل وتناضل بكل ما تملك من أجل الحصول على حقوقها، قد يظن ذلك، ولكن الحقيقة ليست كذلك، فأنا أشعر بالفخر والاعتزاز والزهو بأنني عشت هذا "الربيع العربي" الذي انتظرناه طويلاً. فقط، أنا أحاول أن أقول شيئاً مهماً قد يغيب عن البعض، وهو أن الثورات ليست سوى وسيلة لنيل الحقوق والمكتسبات كالحرية والكرامة والعدل والمساواة والمصير والاختيار والديمقراطية والأمان، ولكن كل تلك العناوين البرّاقة الكبرى تحتاج إلى نوع آخر من الثورات، ثورات ناعمة ونشطة ووطنية يقوم بها المجتمع الذي تخلص للتو من ديكتاتور أو نظام مستبد ليجسد كل تلك العناوين على أرض الواقع. هذا النوع من الثورات هو ما نحتاج له الآن.