لا أحد يعرف بالضبط كيف بدأت لحظة الميلاد الكبرى في أحياء: شمسان، القابل، اليمانية، الصفيح، ذرة، الموصلية، المنسك.. لكن روايات العاشقين لأبها تشير إلى أن هذه المسميات التي توارثها الساكنون لم توضع اعتباطاً؛ بل إن لكل اسم حكاية مُقنعة لدى الأهل والخلان، وربما مثلٌ جيء به من طروق سروية موغلة في الكبرياء، سرت بين مزاويم القصب، و(حَبَلْ) الفرسك، والرمان، والمشمش، والتفاح الأخضر الصغير. فتلقفها الناس وحفظوها كابراً عن كابر، دون أن يحتاجوا لاختراع مسميات منزوعة الدسم والدلالة، وبالمناسبة فكلمة (حَبَلْ) هذه كانت تعني عندهم البستان، ولم يعرف أهل أبها ولا العسيريون بشكل عام كلمة بستان غير العربية إلا قريباً، فكانوا يُسمونه حَبَلاً لما في الكلمة من دلالات الخصب والشبع، وفي تلك الأيام التي ربما لا تعرف عنها الكثير أمانة منطقة عسير أو على الأقل الذين اختاروا المسميات الجديدة التي نراها في هذا الصيف؛ كان وادي أبها ضامناً للفرح والتواصل كوادي العقيق تماماً، ومُحفزاً لمواويل الرُعاة، وهم يعودون في آخر عشايا التعب إلى حي (امناظر)، المفتاحة، الخشع، القَرى، الطبجية، نُصُب العشاق، (امملح)، وهذا الأخير هو قلب سوق الثلاثاء قديماً، الذي يحرسه قصر شدا التاريخي، وبالتأكيد ففي لوح المدينة المحفوظ بالهوى؛ ما هو أكثر بذخاً وانفتاحاً، وتعلقاً بالتاريخ والحضارة، فتلك المسميات القديمة التي تعتقت وهي تُطل في عيون العسيريين كل صباح؛ مثقلة ولا شك بالمعاني والثيمات الخاصة جداً، الأمر الذي لا يستدعي اجتهاداً ترفياً لتسميات غريبة عن المكان وأهله، وهي جزء أصيل من ثقافة أبها التي علمت الناس كيف توزن القصيدة على عبق دلة الهيل، وكيف تتوزع تفاصيل الحكاية السروية على تعرجات خطوط الحناء في اليدين، بحثاً عن الدفء، وسحر الليالي حول جمر الصلل، ومن هذا المجتمع الفاره بتهائمه وسرواته أصبح أهل أبها يحسنون اختيار مسميات الأماكن، كما يحسنون اختيار أسماء الأولاد والبنات، والكنى، ومواسم المطر والحصاد، وربما صدروا جزءاً كبيراً من تسمياتهم تلك إلى خارج حدودنا، وحتى لو أريد لتلك الشوارع والأحياء القديمة في أبها وضواحيها أن تأخذ اليوم أسماء المجر، وجيبوتي، والبقاع، وطنجة، وأبو قاسم الشاماني؛ فإن التاريخ والهوية لا يمكن ثقبهما بأسماء مخترعة بلا نكهة ولا رائحة! إذ لا بد من أن يكون الاسم موافقاً للمسمى، أو على الأقل أن يكون مستساغاً في بيئة تفاخر منذ قرون بأسماء أحيائها وأزقتها فضلاً عن أسماء أولادها وبناتها؛ بل وتعامل الأرض عموماً بطريقة الفلاح الغيور أبداً على زرع المصاطب، وريحان الأحواض الصغيرة.. لقد كتب أحمد أبو دهمان رواية عن حزام أبها، وكتب خالد الفيصل قصيدة عن السودة، فهل سيكتب المبدع القادم رواية عن شارع المجر بأبها؟! ومن يستطيع يا ترى أن يكتب قصيدة لشارع المليجي؟! الأسماء هنا متنافرة ولا تعبر أبداً عن المكان؛ أما بعض المسميات الأخرى كالنسيم والمروج والبساتين فهي تصلح عادة للمخططات الجديدة التي لم يسكنها أحد بعد.. لقد فاجأتنا أمانة منطقة عسير بهذه المسميات الجديدة لشوارع مدينة أبها، وغيرت كذلك في بعض أسماء أحيائها التاريخية؛ دون أن يكون لأهل الاختصاص رأيٌ، أو كلمة، أو حتى اطلاع، ويبدو أنها وضعت ارتجالاً من مجموعة موظفين أبرياء، تعاملوا مع الأمر كوظيفة روتينية بحتة، لكن الاجتهاد الذي يغير في التاريخ والهوية مرفوض تماماً، وهو اجتهاد ناقص، لأن المثقفين وأهل التاريخ، والذين يعرفون أبها جيداً لم يكن لهم دور يذكر في هذا الاختيار كما يبدو، وفي أبها الكثير من الرموز القادرة على صياغة مسميات جديدة إن كان ولا بد، ولكن لها معنى، وعمق وانتماء، فهل أخذت أمانة عسير رأي أحد من المهتمين في مسمياتها الجديدة؟!