في كل مرة يفتح فيها النقاش حول ضرورة خلق مفاهيم وقيم جديدة لتنظيم مجتمعاتنا العربية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً؛ نجد صوتاً عالياً له ضجيج، يطالب بامتثال الماضي والعودة للأصول، كطريقة منطقية لإحياء حضارتنا التي سجل لها التاريخ شواهد قائمة حتى الآن. وبالرغم من أن فكرة الاستنساخ تبدو أسهل من خلق نموذج جديد؛ إلا أن من المستحيل تطبيق مفهوم العودة للأصول بسبب الفارق الزمني وتعارض تطبيق بعض مفاهيم الماضي على الواقع الراهن.

المشكلة أن هذا الطرح يحظى بشعبية كبيرة بين الناس، وذلك نتيجة طبيعية للقراءة الانتقائية التي تتعرض لها بعض كتب التراث من قبل أصحاب هذا الطرح، فما يختار منها ويروج له هو فقط ما يجعل صورة حضارتنا أكثر بريقاً، بينما الجزء الذي يصور الحضارة بواقعيتها المؤلمة يتم إخفاؤه أو في أحسن الأوضاع يبرر. وما يجعل هذه القراءة تعطي ثمرها هو تقاعس الإنسان العربي عن البحث، والاكتفاء بما يتم تلقينه دون استخدام ملكتي الشك والنقد. فقصة "وا معتصماه" نلقنها في الطفولة كنموذج لما وصل له المواطن المسلم من تشريف. لكن قصة مثل قصة الشاعر الوزير ابن مقلة الذي عاش في العصر الذهبي لتاريخنا وهو مهندس الخط العربي الذي ساهم في تأسيس قواعد الخط واعتبر مؤسسا لقاعدتي الثلث والنسخ؛ هذا الوزير قد تم تقطيعه وهو حي على مراحل من قبل ثلاثة من خلفاء العصر العباسي. فخليفة طرده وجرده من أمواله، وآخر أمر بقطع يده اليمنى كنزه الوحيد وقد بكاها بكاء مريراً وقالها فيها "يدٌ تكتب القرآن تقطع كيد لص"، ثم أخيراً تم قطع لسانه وسجنه حتى الموت، لا لشيء سوى آرائه أو وشايات أعدائه. كل ذلك حدث لوزير من قبل السلطة دون حسيب أو رقيب، فما بالك بعامة الشعب في صورة توضح استبداد السلطة في تراثنا العربي والإسلامي، وقتل الناس للأمزجة والأهواء، ودون أن يسجل التاريخ نصاً واحداً يفيد استنكار السلوك المفزع لأولئك الخلفاء.

هذه القصص غيض من فيض مما تحويه كتب التاريخ لدينا، عدا قتلنا بعضنا البعض عبر حروب دامية سجلها التاريخ طمعاً في السلطة أو لاختلاف في المعتقدات، أو إشارة لطموحاتنا التوسعية على حساب الآخرين. فهل هذا وضع الإنسان الذي نريد استنساخه في عصرنا الحالي؟ أتصور أننا في أمس الحاجة لمراجعة تاريخنا بنضج، وإعادة التفكير في بعض مكونات المنظومة القيمية التي قامت عليها، واختيار ما يتلاءم مع قيمة الإنسان وكرامته.