أجد متعة في الكتابة عن الأعمال الجميلة التي ترسخ في ذاكرتي لأول وهلة، حتى ولو كنت قرأتها آلاف المرات. فعلى كثرة الأعمال الأدبية والفنية في العالم، قليل منها يرسخ في الذاكرة حتى يوصف بالخلود. وقليل من المبدعين تبقى أعمالهم رصيداً إنسانياً يشار له باللسان قبل البنان، إلا أولئك الذي اقتحموا طريق التجديد اقتحاماً، فبحثوا عن طريقة ما كي يكونوا أنفسهم لا الآخرين. رسول حمزاتوف-الشاعر الداغستاني الكبير- من هؤلاء حتماً في كتابه الفريد (بلدي). أما أنا فأجد متعة في الكتابة عن مثل هذه الأعمال الخالدة حتى ولو قرأتها آلاف المرات. يقول حمزاتوف: "لقد عشت في هذه الدنيا أكثر من خمسة عشر ألف يوم، وقطعت طرقاً كثيرة جداً، والتقيت بآلاف من الناس. انطباعاتي لا تعدّ، كأنها السواقي الجبلية أثناء المطر أو أثناء ذوبان الثلوج. لكن كيف أضمّها لأجعل منها كتاباً؟" ويقرر بلا مواربة أنه شاعر آفاري، لكنه يشعر في قرارة نفسه بمسؤولية ما، ليس عن أقليم آفارستان وحده، ولا عن جمهورية داغستان وحدها، ولا عن الاتحاد السوفييتي وحده "بل عن كوكبنا كله. إنه القرن العشرون. ولا يمكنك إلا أن تكون هكذا".
يشير حمزاتوف إلى أن والده كان إذا أراد الذهاب إلى القرية المجاورة سيراً على الأقدام، سلك طريقاً آخر غير الطريق العام الذي تسير فيه السيارات، وهو بذلك يشق طريقه الجبلي الخاص به ويزينه بالتماثيل الثلجية وأكاليل الزهور، حتى أصبح الناس يتتبعون طريقه بحثاً عنها. وحين كان رسول صبياً أراد ذات مرة الذهاب إلى القرية من الطريق الذي ابتدعه والده فضلّ الطريق، ورآه أحد الجبليين فقال له: اترك طريق والدك لوالدك، وابحث لنفسك عن طريق آخر، طريق خاص بك. ويؤكد رسول: "وعلى هذا الطريق راودتني لأول مرة فكرة هذا الكتاب"، لقد جعل رسول حمزاتوف لنفسه طريقاً وحده. لم يقلّد الآخرين، ولم يسرق أفكارهم ثم يتجاهلهم، بل ألف كتاباً من الصعب تصنيفه: فلا هو رواية، ولا أقصوصة، ولا ديوان شعر، ولا سيرة ذاتية، ولا مذكرات؛ إنه كل هذه الأشياء مجتمعة وأكثر أيضاً، إلا أن ما يمكن أن يوصف به هو (كتاب) فحسب! وبما أنه عصي على التصنيف هكذا؛ لم يحو مقدمة تقليدية كتلك المقدمات الطويلة والشائعة والمملة. ويذكر رسول حمزاتوف أنه اشترك في ندوات شعرية عديدة في موسكو وغيرها من المدن الروسية. ولأن الناس لا يعرفون لغته (الآفارية) كان يقدم نفسه بداية باللغة الروسية بلكنة قوقازية واضحة، ثم يقرأ أصدقاؤه الشعراء الروس ترجمات أشعاره. ولكن رغم ذلك كان يطالَب بقراءة قصائده بنفسه وبلغته الأم، فيستجيب للأمر، لكنه يشعر في داخله بأن ذلك "مثل تسوية القيثارة قبل بدء الأغنية" متسائلاً: أليس هذا ما يحدث في المقدمات؟ ويدعم قناعته هذه بتجربته الإنسانية الثرية، مشيراً إلى موقف حدث له مع أبيه حين كان طالباً في موسكو، إذ أرسل له والده نقوداً كي يشتري معطفاً، لكنه أنفقها وعاد إلى أهله بالملابس التي غادر بها. وحين وصل حاول اختلاق الأعذار مختلقاً الأساطير كما يقول، لكن والده قاطعه قائلاً: قف يا رسول. أريد أن أسألك سؤالين: هل اشتريت معطفاً؟ لا. هل أنفقت النقود؟ نعم. لماذا إذن تخترع كل هذه المقدمة الطويلة؟ وأنت تكفيك كلمتان اثنتان لإيضاح ما هو مهم؟! وهكذا تخلى عن التقليد الشائع بالمقدمات الطويلة والمملة وابتدأ مباشرة بما يريد كتابته.
"السلاح الذي تحتاجه مرة واحدة عليك أن تحمله العمر كله. والأبيات التي سترددها العمر كله تُكتب مرة واحدة". لقد رفض حمزاتوف طلباً غبياً وفجاً لرئيس تحرير إحدى المجلات الروسية الشهيرة، لكتابة شيء عن داغستان، تقاليدها تاريخها، حاضرها، بأي أسلوب أدبي يختاره، بحدود 10 ورقات خلال مدة لا تزيد عن 25 يوماً!
لكن رسول يؤكد أنه من الصعب على الكاتب أن يكون تحت الطلب بهذه الطريقة "المهينة"، ويبدو أنه اعتبرها مهينة لأنها لم تنل من كرامته شخصياً فحسب، بل نالت من كرامة بلده داغستان. فانتصر حمزاتوف لكرامة وطنه-لا بالسيف- بل بالقلم الذي يجيد الإمساك به. (تسادا) قريته الجبلية خلّد تاريخها بقلمه، ليقرأها العالم كله. يخاطبها بحب: "قريتي العزيزة تسادا"، وهي بالنسبة له أروع من البندقية والقاهرة وكالكوتا. وإنه في كل خطوة خطاها فيها يلتقي فيها بذاته، بطفولته، بفصل الربيع، بالأمطار، والثلوج، وأوراق الخريف المتساقطة. وإن الرشاشة في فندق "القصر الملكي" في باريس أشبه بلعبة تافهة من اللدائن إذا قورنت بشلال متلألئ في تسادا. وإن المغطس الأزرق في فندق "ميتروبول" بلندن يتعبر صحناً تافهاً إذا ما قورن بالمغاطس الجبلية في تسادا. "أجل، أنا أحب التجول في المدن الكبيرة سيراً على الأقدام. ومع هذا، فبعد خمس أو ست جولات طويلة تبدأ المدينة تأخذ شكلاً مألوفاً، وتخبو رغبة التجوال فيها بلا نهاية. وهأنا ذا أسير للمرة الألف في أزقة قريتي. ولا أشبع ولا أمل السير فيها"!
يسهب حمزاتوف في شرح معنى كتابه هذا والغرض منه، مبتدئاً بقصة مولده وتسميته وعادات المجتمع الداغستاني في هذه المناسبات. ويتساءل استنكارياً بقوله: من أين للعالم أن يعرفنا إذا كنا لا نعرف أنفسنا كما يجب؟ نحن مليون مكدسون في كتلة صخرية من جبال داغستان! وإذا ما تم تشبيه الكاتب بالطبيب فعليه أن يعرف استخدام الوسائل القديمة وآخر منجزات العلم أيضاً، وإذا ما شبه الكاتب بالمسافر، فعليه حين يحلّ على شعب آخر، أن يحمل في قلبه أغاني وطنه، ولكن عليه أيضاً أن يجد في قلبه مكاناً لأغنياتهم. لقد تمنّى المؤلف أن يكون كتابه قريباً من نفسه وقريباً من الآخرين أيضاً. ويشبّه نفسه بالصائغ الماهر، لديه الذهب والفضة والأدوات والمطارق. فـ"أنا عندي لغتي الأم، وتجربتي في الحياة وصور الناس، وأخلاق الناس، وألحان الأغاني، وحسّ التاريخ، وحسّ العدالة، والحب، وطبيعة بلدي، وذكرى والدي، وماضي شعبي ومستقبله... سبائك ذهب بين يدي. لكن هل لي يدان ذهبيتان، يدان بارعتان؟ هل عندي ما يكفي من الموهبة، ومن البراعة؟" ويتوجه للقارئ بالقول: يمكنك وأنت تقرأ كتابي أن تدرك أن الآفار هم الذين يسكنونه، لكنك تدرك أيضاً أن واحداً من معاصريك، من القرن العشرين، يسكنه أيضاً. وفي فصل بعنوان "الإنسان"، يؤكد حمزاتوف أن الإنسان والحرية يسميان باللغة الآفارية باسم واحد، (أوزدن) هو الإنسان، و (أوزدندلي) هي الحرية، فحين تقول الإنسان كأنك تقول الحرية! ويشير في موضع آخر إلى مقولة لأبيه: من لا يهتم بأمته لا يستطيع أن يهتم بالعالم كله! ولذلك يعتبِر رسول حمزاتوف أن الكتاب والكتابة أعظم كنزين نسي أن يعطينا إياهما من وزّع اللغات... فلو أننا استطعنا أن نستخدم الورقة والقلم، لما كنا بحاجة إلى أن نلجأ للسيف كل هذا اللجوء!
"انتهينا، حان وقت الفراق. وكما يقال سنلتقي مرة أخرى إذا قدر الله لنا"، بهذه العبارة أنهى رسول حمزاتوف كتابه (بلدي).. فما أجمل أن يكتب الإنسان وطنه قبل أن يكتب العالم، بعد أن يكون هو نفسه.