تتنوع مطالب الشعوب في مستوياتها وأبعادها ثم تصب في مجرى واحد في النهاية: الحياة الكريمة. يعرف كل شعب هذه الحياة الكريمة حسب تاريخه وثقافته وظروفه وآماله، بين من يجدها في الحرية الفردية أو الرفاه الاقتصادي أو المشاركة السياسية أو الكرامة القومية. تزيد وتيرة كل مطلب منها وتنقص حسب منسوبه في وريد الوطن ورسوخه في ثنايا الثقافة. دارت عجلة الإصلاح الصيني من أجل العدالة التي أهدرها الإقطاعيون وأعاد الياباني بناء أمته من أجل الكرامة التي بعثرتها مؤسستهم العسكرية. ثار الفرنسيون من أجل المساواة والروس من أجل الخبز والإيرانيون من أجل الفقيه. تخلى الأستراليون والكنديون عن مظلتهم البريطانية رغم انتمائهم لها تاريخاً، وولائهم لها عرشاً، وامتدادهم منها ثقافة، من أجل المشاركة السياسية فقط. بالتأكيد أن دوافع أخرى تختفي دائماً تحت غطاء الحراك الشعبي يتجادل حولها المحللون طويلاً. المهم أن من عادات الشعوب المشتركة أنها تتململ. ودائماً تلتفت حولها بحثاً عن نموذج أفضل تغار منه، وتتأمل في تاريخها بحثاً عن ماض أجمل تستلهم منه، وتعيد تفسير ظروفها بحثاً عن واقع أفضل تسعى إليه. لا يوجد شعب في العالم يملك نشرة أخبار خالية من هذه المخاضات التي تحاول أن تلد حياة أفضل، سواءً من رحم الحراك المدني أو الإصلاح السياسي أو التنمية الاقتصادية أو الثورة الشعبية. لا يوجد سقف لمطالب الشعوب ولا يوجد شعب يتربع وحده على قمة الرضا. الحكومات التي تؤمن أن ليس بالإمكان أفضل مما عليه الحال تواجه نفس مصير الحكومات القامعة والفاسدة بفقدانها ثقة الشعب وخروجها من دائرة طموحه. الشعوب تتوق عادة للحكومات التي تبثّ فيها روح الأمل والتطلع لمستقبل أفضل.. مهما كان الحاضر جميلاً ومكتمل البهاء.

المطالبة بالتطوير والتنمية لم تنقطع يوماً من نداءات المجتمع السعودي. من يقرأ أول صحيفة سعودية صدرت بعد التوحيد وحتى العدد الذي صدر هذا الصباح فسيجد في ثنايا كل منها أن روح المطالبة مستمرة باختلاف الوتيرة وتنوع المطالب. إنه شعبٌ حيّ يعيش رحلته الحضارية بتقلباتها محاولاً أن يصنع واقعاً يجعله يشعر بالسعادة والرضا ويشارك قياداته منذ البداية في رحلة التوحيد والبناء والتنمية والرفاه والإصلاح. قد يكون ما طالب به المجتمع من قبل مختلفاً عما يطالب به الآن حسب الظرف والمرحلة والحاجة، ولكن - في نهاية المطاف - أي مطلب تُحشد له قناعة شعبية هو مطلب مشروع أياً كان مجاله. فالمطالب لا يمكن تقسيمها على مستوى الهمة والعلو ما دامت في نهاية المطاف نتاجا تلقائيا لما يجده المجتمع سبباً لاستقراره ورفاهيته. المطالبة بمستشفى في قرية أو سعودة في قطاع لا تختلف عن المطالبة بمشاركة شعبية أوسع أو حقوق فردية أكثر صرامة. قد يختلف الأفراد في تقديرهم لأهمية مطلب ما وإلحاحهم عليه ولكن السعادة ليست إلا قناعة الفرد بتحقق ما يريده، وهذا ما يمكن سحبه على المجتمع بشكل عام. قد لا يريد السنغافوريون نظاماً أكثر ديموقراطية مما هو عليه الآن بقدر ما يريدون استمرار نموهم الاقتصادي المضطرد والمثير للإعجاب، وقد لا يريد الإيطاليون ما يعدهم به رئيس وزرائهم الحالي من إصلاح اقتصادي بقدر ما يريدون استعادة ديموقراطيتهم التي تتناقص بسبب ضغوط الفساد والتكتلات الحزبية. ينخفض الأثر المعنوي لأي إصلاح حكومي لم يطالب به الشعب مهما كان مهماً، ويرتفع أثر ذلك الذي جاء استجابة لمطالب مسبقة مهما كان هامشياً. في مجتمعنا السعودي، طالما كانت عملية البناء تمشي على قدمين من المطلب الشعبي والاستجابة الحكومية، أو الاستشعار الحكومي المسبق لمطالب الشعب والمبادرة إلى تقديمها.

المتأمل بشكل كمي في الإعلام السعودي قديماً وجديداً، والجدل الاجتماعي العام والخاص، لا يعود بوسعه تجنب الخروج بنتيجة أن حجماً كبيراً من التطلع الشعبي ينحصر في شؤون خدماتية، وما هو إلا ردة فعل تلقائية لما يتعرض له المواطن من معكرات في حياته اليومية. عندما يتذمر الأب والابن معاً من خدمات الخطوط الجوية مثلاً فهذا يعني أن جيلاً كاملاً من أبناء الوطن لم ينعموا بخدمة جوية كريمة على الإطلاق، كذلك ينسحب الأمر على غياب شبكات المياه في مدن كبرى، وضعف الخدمات الصحية في المناطق النائية، وتردي مستوى التعليم العام في المدارس الحكومية، وارتفاع أسعار المنازل والأراضي السكنية. إن ما يعظّم من أهمية هذه المطالب أن لها مساساً مباشراً بكل فئات المجتمع، وأنها تحظى بإجماع مطلق من جميع تياراته، وأنها من أسباب التذمر الاجتماعي بكل تأكيد. ومثل هذه المشكلات موجودة واقعاً في دول تحظى بأنظمة سياسية مختلفة تماماً: الديموقراطي والأوتوقراطي، الشيوعي والرأسمالي. اختلاف النظام السياسي لا يجعل شعباً من الشعوب أكثر صبراً على غياب الإصلاحات التي تمسّ حياته اليومية مما ذكر أعلاه، كما لا يجعله أيضاً أقل مطالبة. دليل ذلك هو هذا التحليل الكمي لأكثر المطالب إلحاحاً في المجتمع السعودي. ولو استيقظ هذا المجتمع الطموح على خدمات أفضل في المدى القريب يستطيع أن يباهي بها دول العالم.

الخدمات راقية المستوى هي وجبة يومية من الأمل في حياة الشعوب. واليوم الذي يقضيه المواطن دون أن يزعجه انقطاع التيار أو تأخر الرحلة أو طرقات المؤجِّر أو ازدحام الشارع أو تلوث الجو أو الخطأ الطبي ليس يوماً عابراً فحسب.. بل لبنة راسخة في بناء الوطنية.