يبدو أن الجدل الواسع واللغط الشديد الذي أثاره مسلسل "القعقاع بن عمرو التميمي" في رمضان الماضي لن ينتهي، بل هو على موعد آخر، ولكن بوتيرة أشد حدة وبصخب أكثر عنفاً، وذلك بسبب العملين الدراميين المثيرين المزمع عرضهما في شهر رمضان القادم بعد عدة أيام، مسلسل "الحسن والحسين"، وهو مسلسل تلفزيوني يتحدث عن سيرة سبطي الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي فترة حرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، كثرت فيها الفتن والمحن. أما العمل الآخر، فهو مسلسل "الفاروق"، وهو دراما تلفزيونية تتناول شخصية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.

رمضان هذا العام سوف يشهد المزيد من النقد والجدل واللغط نتيجة عرض هذين المسلسلين المثيرين، ولن تُفلح الدعوات الواضحة التي يُصرح بها الكثير من العلماء والمثقفين أبرزهم الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور سلمان العودة والشيخ عبد الله بن محفوظ والشيخ نصر فريد واصل والشريف حسن الحسيني والدكتور طارق السويدان وغيرهم الكثير، وذلك لإعطاء الفرصة الثمينة لظهور التفاصيل الإسلامية الحقيقية في وسائل الإعلام المختلفة، لاسيما التلفزيون الذي يتحلق حوله الملايين من المشاهدين على امتداد الوطن العربي، بل وفي كل أنحاء العالم الذي تتواجد فيه الجاليات العربية، لأنه ــ أي رمضان ــ يُمثل الذروة الموسمية لكل صُنّاع الدراما العربية.

وإشكالية تجسيد الأنبياء والرسل والملائكة وأمهات المسلمين والصحابة تُعتبر من أشد التابوهات والممنوعات التي صمدت كثيراً، وما زالت تلقى معارضة شديدة من قبل بعض الهيئات والمؤسسات والمراكز الإسلامية، وكذلك من بعض العلماء والمثقفين، ورغم الجرأة وروح المغامرة التي غالباً ما يتمتع بها صُنّاع الدراما السينمائية أو التلفزيونية إلا أنهم لم يقتربوا كثيراً من هذا الموضوع الحساس الذي يتعرض لشخصيات ورموز لها من القدسية والمكانة والتقدير في الضمير الجمعي الإسلامي.

حتى العالم الغربي، وبكل ما يُمثله من تطور وتحرر وانفتاح طال كل الجوانب والمجالات، إلا أن صُنّاع السينما العالمية ومنذ بدايات القرن الماضي عانوا كثيراً وما زالوا بسبب طرقهم لهذا الموضوع الحساس. نعم، استطاع تيار المغامرة السينمائية الغربية، لاسيما الأمريكية أن يكسر معظم التابوهات الدينية والقفز على المحظورات، ويقوم بإنتاج أكثر من 350 فيلماً تناولت سير الأنبياء والرموز الدينية المسيحية واليهودية، ويعتبر فيلم "آلام المسيح" الذي أنتج عام 2004م هو الأشهر على الإطلاق، حيث تعرض مخرجه النجم السينمائي ميل جيبسون للكثير من الاتهامات والملاحقات، خاصة من اليهود الذين اتهمهم الفيلم صراحة بقتل المسيح، وما زال يُلاحق بتهمة معاداة السامية.

وحتى نقترب كثيراً من مسببات وتداعيات هذا الجدل القائم حول قبول أو رفض تجسيد شخصيات الأنبياء والصحابة في الدراما، لابد أن نستعرض بشيء من الإيجاز بعض الأسباب والحيثيات والقناعات التي يتمسك بها طرفا الخلاف. فالفريق الذي يتبنى منطق الرفض والتحريم، يرى أن تجسيد هذه الشخصيات المنزهة في ذهنية وذاكرة المسلمين غير ممكن، ومهما وصل ذلك العمل من حرفية ومراعاة للضوابط الشرعية إلا أنه لن يكون مطابقاً للواقع مما يؤدي إلى امتهان وإسقاط لمكانتهم العالية. ومهما كانت الفائدة عظيمة من ذلك التجسيد ــ كما يرى أصحاب هذا الفريق ــ إلا أن إشكالاته وتداعياته الخطيرة تفرض ذلك المنع. كما أن الممثلين يرتبطون في أذهان المشاهدين ــ لاسيما الصغار ــ ببعض الأدوار والمواقف كمشاهد السُكر والغرام والانحراف، مما يسبب حالة من الإرباك والتهوين والتناقض حينما يُجسد هؤلاء شخصيات الأنبياء والصحابة. المؤامرة الداخلية والخارجية والتي تهدف لتمييع وتسقيط الرموز الدينية، تحضر دائماً في قائمة الذرائع الخاصة بالتحريم.

وعلى الجانب الآخر، لا يجد المتحمسون لتجسيد شخصيات الأنبياء والصحابة أي إشكال شرعي أو عرفي في ذلك، بل العكس تماماً، حيث يؤكد الكثير منهم بأن تناول هذه الشخصيات المهمة في ثقافة وسلوك وحياة المسلمين ليس إلا تجسيداً لمبادئ وقيم الإسلام العظيم، ومحاولة استثمار التلفزيون لجهاز خطير، ويمثل أداة جديدة لعرض الآثار والأحداث والمواقف والشخصيات الإسلامية، بدلاً من تلك الأساليب والوسائل المحنطة والنمطية التي عفى عليها الزمن، ولم تعد تؤثر في هذا العالم المتطور علمياً ومعرفياً وفكرياً وتقنياً. الأجيال الجديدة تتأثر كثيراً بوسائل ووسائط التقنية الجديدة. أيضاً، يُحذر هذا الفريق من ترك الساحة خالية للسينما والدراما الغربية التي تُظهر شخصياتنا ورموزنا الملهمة بشكل غير لائق، كذلك النتائج الباهرة التي حققها الكثير من الأفلام السينمائية التي تناولت الشخصيات والرموز الإسلامية، سواء على صعيد الإيرادات أو تغيير النظرة السلبية التي يحملها المشاهد الغربي عن الإسلام، ولعل أفلام "الرسالة" و"عمر المختار" و "صلاح الدين"، وغيرها خير دليل على ذلك.