إذا نقلت لنا الأخبار يوماً أن جزءاً من النفط السعودي تتم سرقته بواسطة أنابيب سرية تحت الأرض يتسرب من خلالها إلى دول مجاورة فإن صدمتنا لا يجب أن تقلّ عما نشهده يومياً من هجرة الأموال السعودية إلى الخارج: سياحة أو عمالة أو استثماراً. والحقيقة أن كلا السيناريوهين السابقين مثيران للحفيظة الوطنية ويستدعيان موقفاً مصيرياً. الفرق أن الأول مجرد افتراض بينما الثاني واقع معاش لا نملك إزاءه إلا الأسف والتحسر. ولو أن السيناريو الأول كان حقيقة لوجهنا تهماً ثقيلة إلى المتسببين فيه تتراوح بين التسيب والإهمال إلى الفساد والخيانة. ولكنا لا نتساءل إلا قليلاً عن المسؤولين الحقيقيين وراء السيناريو الثاني. لماذا يرحل آلاف السياح السعوديين موسمياً إلى دولة لا يقل طقسها حرارة عن الرياض ولا رطوبة عن جدة؟ ولماذا يحول ملايين العمالة الوافدة رواتبهم خارج الاقتصاد السعودي في نفس يوم استلامهم لها رغم تحكم العمالة الوافدة نفسها في عدة مفاصل مهمة من هذا الاقتصاد؟ ولماذا تنفق بعض الجهات الحكومية أموالاً طائلة لاستضافة المستثمر الأجنبي من باب، بينما يخرج المستثمر المحلي من الباب المجاور؟

أهم مقاييس الاقتصاد في أي دولة هو حجم الناتج القومي الذي يجمع القيمة السوقية لجميع البضائع والخدمات التي تقدم داخل الدولة. هذا يعني أن الأموال السياحية والعمّالية والاستثمارية التي تتسرب كل يوم خارج حدود اقتصادنا وبتدفق رهيب بوسعها أن تضاعف ناتجنا القوميّ لو أننا نهتدي إلى طريقة مناسبة لإعادة حقنها فيه. المشكلة أننا كلما حاولنا الاهتداء لهذه الطريقة اصطدمنا بمعوقات اجتماعية وبيروقراطية وثقافية ليس لأغلبها أي ذريعة سوى الخوف من المجهول والقلق من التغيير. هذا يجعل المسؤولين عن إبقاء هذه العوائق قائمة لا يقلون ذنباً عن المسؤولين المفترضين في حالة سرقة النفط السعودي. فلا فرق بين المال الذي يتسرب عبر بطاقات الائتمان وحوالات البنوك عن المال الذي يتسرب عبر أنابيب نفطية مخبأة تحت طبقات الأرض. في نهاية المطاف، كلها تعدّ ثقوباً واسعة في ثوب اقتصادنا الوطني وتفريطاً فادحاً في مستقبل الأجيال التي استأمنتنا على نصيبها من هذه الثروة المتسربة.

سياحياً، لسنا بحاجة إلى إحصاءات موثقة لنقدّر حجم الأموال التي حملها السياح السعوديون معهم إلى دبي هذه السنة. زيارة قصيرة إلى هذه الإمارة الطموحة خلال الصيف تكشف بوضوح أمرين مهمين: الأول؛ أنها أصبحت وجهة سياحية طوال السنة لشريحة كبيرة من المواطنين وليست موسمية كباقي الوجهات السياحية المعتادة للسعوديين. والثاني؛ أن غالبية هذه الشريحة هم من رواد السياحة العائلية وسياحة الأعمال. تحوّل دبي إلى وجهة دائمة يعني أنها لم تعد وجهة تجريبية يرتادها السياح السعوديون بدافع الفضول والاستكشاف بل جزءاً ثابتاً في برنامج سفرهم السنويّ، إما كمحطة (ترانزيت) تصب في مصلحة الناقل الإماراتي أو كمحطة سياحة تنعش أسواق العقار والخدمات الإماراتية. وهذا مكسب سياحي هائل في علم تسويق الوجهات السياحية يدخل تحت مسمى ولاء الزبون الذي هو منتهى الطموح التسويقي. الأمر الثاني يكتسب أهميته من كونه حجة بالغة أمام من اعتاد الطعن في نجاحات دبي عن طريق ربطها بالتساهل في القيم المجتمعية والأخلاقية وأن سياحتها قائمة على ما لا يقبل المجتمع السعوديّ وجوده داخل حدوده. والعاجز إذا أعيته الحيلة لم يعيه التبرير. فغلبة السياحة العائلية وسياحة الأعمال على السياحة الهابطة في دبي أصبحت واقعاً لا يمكن تجاوزه. ولا نظن أن هناك مانعاً ثقافياً واجتماعياً لأن نقدم للعائلات السعودية (المحافظة) ما نجدها تشدّ الرحال إلى دبي من أجله كل إجازة.

عمّالياً، ما زالت الجهود القائمة لإقناع العمالة الوافدة بإنفاق دخلهم محلياً قاصرة وغير مجدية. أغلب العمالة الوافدة تضطر لتحويل مرتباتها إلى عوائلهم في بلاد بعيدة. هذا يستدعي إجراء دراسات لمعرفة مآل هذه الأموال في النهاية، وهل يتم إنفاقها فوراً في استهلاك أسرة العامل أم يتم ادخارها لأجل مقبل؟ وفي الحالتين، ما هي الفرص المتاحة في الاقتصاد السعودي للاستفادة من هذا الأموال؟ لماذا تحتل العمالة الأجنبية أحياء بأكملها في مدن كبرى في السعودية ثم لا يجدون فيها مكاناً لأسرهم لإيقاف تسرب رواتبهم خارج الحدود؟ هل ثمة وسيلة لتمكين العامل الوافد من جلب أسرته وإعالتهم ضمن حدود راتبه في السعودية؟ قد يبدو الأمر مستحيلاً في ظل تدني رواتب العمالة الوافدة عموماً ولكن استحالته تتناقص تدريجياً إذا توفرت حلول اقتصادية شاملة تسمح لعدد كبير من هذه الأسر من العيش بشكل اقتصادي في السعودية ليسهموا إيجاباً في دفع عجلة الاستهلاك والاقتصاد المحلي. ولعل أبسط هذه الحلول يكمن في رفع راتب العامل الوافد باشتراط جلب أسرته لأن التكلفة الإضافية من هذه الزيادة يتم تعويضها من إنفاق العامل على أسرته داخل البلد. هذا الأثر الاقتصادي الإيجابي يكفي لتغطية الضغط السكاني الناشئ من وجودهم على الخدمات العامة كما أن له آثاراً اجتماعية إيجابية أيضاً. فالعامل الذي يستأنس بأسرته قريباً منه أكثر إنتاجية للشركات وأقل إزعاجاً للسلطات.

استثمارياً، ما زلنا نبذل جهوداً هائلة لاستقطاب المستثمر الأجنبي. ولو قارنّا حجم هذه الاستثمارات التي تم استقطابها فعلاً بالفائض في رأس المال السعودي الذي يشكو من ضعف قنوات الاستثمار لتوصلنا إلى نتائج مربكة. هل أصبح جذب المستثمر الأجنبي أكثر سهولة من المستثمر المحليّ؟ هل يمكن أن يكون العائد المباشر على الاقتصاد الوطني من الاستثمارات الأجنبية (التي يجب أن يخرج جزء من أرباحها إلى الخارج بطبيعة الحال) أعلى من عائد الاستثمار المحلي الذي قد يبقى كله داخل حدود الاقتصاد؟ ولماذا هذا الشغف برأسمال أجنبي متطلّب ومتقلب المزاج والعزوف عن رأسمال محلي لا يحتاج سوى لقوانين واضحة واستراتيجيات مضمونة؟ هذه المسارب الثلاثة هي الأضخم في جسد اقتصادنا الوطني. وهي أشد ضرراً به من سيناريو سرقة النفط أو تسربه لأن سرقة النفط هي فوات للربح فقط، بينما استمرار نزيف الأموال المؤلم هو خسارة استراتيجية فادحة وتضييع لفرص لن تكرر ويزداد انتهابها صعوبة مع ترسيخ المنافسين لحصصهم الاستراتيجية في السوق السياحي والاستثماري. ولعل مقالات أخرى متفرقة تتناول بعضها على حدة.