مختصر ثقافة الحجاج: إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لجانيها. ويعتبر الحجاج في التاريخ السياسي أنموذجاً للطاغية الظالم وسفاك الدماء، وهذه الثقافة تتعارض إلى حد كبير مع ثقافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ القائمة على العدل والتسامح، وإنصاف الشعب، واستبعاد المصفقين من الشعراء وغيرهم ممن يُوصفون بالبطانات الفاسدة والناهبة. ويبدو أن بعض الحكام العرب اليوم يتعاملون مع شعوبهم ـ وعن قناعة تامة ـ انطلاقاً من ثقافة الحجاج ومنهجه في الحكم، وقد عبر عن هذه القناعة بالفعل سؤال القذافي الشهير: من أنتم؟ وهو سؤال متعال لا يعترف بالشعب من الأساس، بل ويراه مجموعة من الفئران والمخربين الذين يستحقون القتل والسحق، ومع أن الطريقتين تسيران جنباً إلى جنب في الثقافة العربية، ويتعلمها أطفالنا منذ نعومة أظفارهم في المدارس؛ إلا أن ثقافة عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ لا تتجاوز المنابر في واقعنا العربي اليوم، بينما تطبق ثقافة الحجاج بحذافيرها في أجزاء واسعة من ربوع العرب بصور وطرائق شتى، وقد يزيد بعض النشامى في جرعة الطغيان على كل ما جاء به الحجاج، حتى يصبح الحجاج نفسه ملاكاً بالمقارنة! إذ من الواضح أن بعض الحكام العرب لا يتذكرون عدل عمر بن عبد العزيز، ولا سيرته الباذخة؛ إلا في ساعات الصفا، أو حينما يريد أحدهم أن يكذب على شعبه في خطاب طويل مليء بالإيمانيات والنظريات الإنسانية الرنانة كالحرية، والعدالة، والمساواة، واحترام القانون.

كل ما يحيط بالإنسان العربي اليوم من مظاهر الطغيان والتسلط يذكره دائماً بالحجاج وظلمه وجبروته، إلا أن بعض الحكام المعاصرين يتجملون من حين لآخر بتقليد سيرة عمر بن عبد العزيز ـ خطابياً ـ لمآرب لا تخفى على كل قارئ جيد لما بين السطور، فالحكام يقولون كلاماً جميلاً عبر المنابر يشبه ما كان يقوله عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في العدل والمساواة، وفي نفس الوقت يطبقون طريقة الحجاج في القمع وقطع الرقاب والألسن، وبالتالي فالواقع العملي سرعان ما يكشف الثقافة الحقيقية التي يؤمنون بها وهي ثقافة الحجاج! كل هذا القتل في سوريا وليبيا واليمن والعراق يؤكد أن الحجاج هو القدوة الصامدة في وجه الزمن والتحولات، وهو الصواب والخيار المفضل لدى بعض الحكام، وأنه فوق ذلك أيقونة عربية ثابتة يمكن استلهام أدبياتها، وتطبيقها في الشوارع العربية التي يرى الحكام أنها حادت عن الجادة المرسومة، ولو بكلمة، أو حلم تحرر من عبودية وإذلال، وهنا لا يمكن لأي ورقة توت أن تغطي السوأة المفضوحة بالتصرفات الهمجية التي نراها عبر الشاشة مهما كانت المبررات. على أن مما يحسب للحجاج بالرغم من ظلمه وسفكه للدماء أنه لم يكن يفرط في الأرض والعرض والكرامة كما يفعل بعض الحكام في هذا العصر. إن تقديم الحجاج كفارس ومحارب لا يتردد عن اتخاذ القرار الدموي الأصعب؛ هو السبب في إحياء ثقافته باستمرار، وراقب المتحدث حينما يصف زهد عمر بن عبد العزيز وعدله وتقشفه، وحينما يلهب المستمعين بحديثه عن فروسية الحجاج وصولاته وجولاته مع المخالفين، ومقولاته البليغة؛ ثم قارن بين الخطابين لتعرف إلى أي مدى تؤثر فينا ثقافة الحجاج؟ حتى لكأننا نراه ونعايشه، بينما نحن مع عمر بن عبد العزيز مجموعة من المستمعين المحايدين إلا من رحم ربك، والفرق كبير! وفي واقع كهذا فإن كتاب الأمير لميكافيللي الذي يعتبر مرجعاً مهماً لدى الحكام الغربيين هو مجرد كتاب تسلية لدى الحاكم العربي، الذي أراد أن يكون له سياسة خاصة ومتفوقة، فقرر أن يفتح المنبر لعمر بن عبد العزيز كي يتنفس الناس من خلاله، ويعبروا عن متاعبهم وأحزانهم مع الطغيان، وجعل الواقع المعاش للحجاج بن يوسف الثقفي يتصرف فيه كيفما يشاء بعسكره وجبروته، ومن الصعب أن تلتقي الثقافتان إلا على صعيد عربي مثقل بالشبيحة، والتعاويذ والتمائم، وأشياء أخرى ربما تأتي بها أيام مثقلة.