نحن نعلم أن كل الأفعال تخضع، على الأقل بالنسبة للغالبية منا، لمعايير أخلاقية فيصنف كل فعل على أنه فعل خير أو شر، فعل بناء أو هدم، فعل إصلاح أو إفساد، وحين نصنف أي تحرك أو مجموعة من السلوكيات الاجتماعية نخضعها لنفس المعايير القديمة بقدم حضاراتنا الأولى على هذه الأرض، وهو إما أن يكون هذا التحرك همجيا بمعنى أنه قد يستخدم العقل لكنه خال من الروح وإما يصنف على أنه حضاري بما يحمله من فوائد تهدف إلى ازدهار ونمو ليس فقط المجتمع الحاضن، بل الإنسانية جمعاء. وحين نتحدث عن الثقافة، خاصة التي تنتمي إلى جنس أو مجموعة من البشر نكون نتحدث عن كل "ما تشمله من المعرفة التراثية المتمثلة في المعرفة العلمية والدينية والأخلاقية والتربوية واللغوية والفنية، وكل ما تجسد منها في هيئة أعراف وتقاليد وطقوس، وبقدر ما ينشط الإبداع الفكري بقدر ما تكون هنالك حياة وتجديد في هذه الثقافة" كما وضح لنا المفكر العربي أحمد داوود. حسنا الآن وضمن هذا الإطار لنلقي نظرة سريعة على الغرب خاصة لأننا فتحنا الأبواب لهذا الغرب أن يدخل إلى مدننا، مدارسنا، مشافينا، أسواقنا، أسرنا، بل إلى نواة مجتمعاتنا، لنرى هل ما يقدم لبقية العالم كمنظومة كاملة، لأننا نريد أن ندرس التأثير الكلي لا الجزئي، هل يمكن أن يطلق عليه لقب حضارة أو حضاري؟
لنأخذ المعرفة التراثية: لا توجد فيها أصالة لأن جلها عبارة عن ترقيعات أخذت من شعوب حضارية أخذوا عنها الكثير ثم استداروا ليتعاملوا معها بكل فوقية، بل بكل جحود من خلال التعتيم والتزوير والسرقة لتاريخ هذه الشعوب، لنأخذ العلم كمثال أول، إلى أي مستوى وصل على أيديهم، وهنا أعني أخلاقيا، هل استمر على خطه الأول من أجل البناء والتعمير والمصلحة العامة أم أصبح أداة في أيدي القلة من أجل التحكم والتأثير السلبي؟ لنكبر الصورة أكثر ونركز على المجال الطبي، هل تقلصت نسب الأمراض؟ هل تقلصت التكاليف؟ هل وصلت الخدمات الطبية للجميع على نفس المتسوى؟ هل نقلت الأدوية إلى الدول الفقيرة أم حرمت لأن شعوبها لا يملكون الثمن؟ ولنأخذ البيئة الطبيعية التي أنعم بها الله علينا كبشر على هذه الأرض، ماذا فعلوا بها غير التقطيع والتلويث وتحويلها إلى مناطق تجارية ولا أقول سكنية، لأن الأصل في تأسيسها هو التجارة أي المادة وليس الإنسان، ولنأخذ بضائعهم التي يصدرونها لبقية العالم، هل تصنع على أعلى مستويات الجودة والتحمل؟ لا أظن ومهما رقعوها بأختام الجودة من كل صوب وحدب، لا يمكن أن تكون كذلك وإلا خسرت تجارتهم، لأنهم يعتمدون بالأصل على أنه حالما يخرج المنتج من المصنع يصبح بضاعة تالفة غير قابلة للتجديد أو التطوير، تبذير وإهدار لمصادر البيئة، نعم، ولكن الربح أهم.
ولنأخذ الرياضة، بعد أن كانت لتقوية الشباب وتجهيزهم جسديا وفكريا ومهاريا لحماية مجتمعاتهم، أصبحت مجالا للربح وأستغلال الشباب، لا بل الأطفال أيضا، فلا يرحم أحد طالما أن هنالك ربحا يجنى، وماذا عن اللغة؟ نحن نسمع من ينادي بتعلم لغتهم، نعم أوافقهم الرأي، ولكن لغتهم الأصلية لا المسخ الذي أصبحت عليه، وهم أول الشاكين من تدهور لغتهم على أيدي أصحاب "الراب" وغيرها من الفنون التي لا تمت لأي فن بصلة. كيف نريد لشبابنا أن ينهلوا من الصالح من علومهم دون التعرض لسموم ما يقدم على أنه فن وحضارة وتمدن؟ الإجابة في تعليمهم أصول لغتهم من خلال تعريفهم على نشأة هذه اللغة العظيمة بكل ما تحمله من تاريخ وحضارة والتي حين نقلت إلى الغرب أخذ منها معنى واحدا وترك الباقي، والكلمة عندنا قصة ورواية مثل كلمة آدم ومريم وإبراهيم وجلجاميش، والفعل فيها هو المركز هو الجزر، ولكن ضاع كل ذلك حين علمنا أجيالنا اللغة العربية من خلال إعرابها وسلخنا عنها الروح؛ تاريخها، فكل ما تعمقت بتاريخ كلمة أقول في نفسي: لو أن شبابنا يعرفون ذلك لو أنهم يدركون معنى ذلك!
والآن لنرى ماذا فعلت بهم النظرة الدونية لبقية البشر، أو لنقل الشعور بالنقص الذي يحملونه من جراء علمهم بأن كل ما لديهم لم يكن من عندهم أصلا: الموسيقى، المسرح، الرياضة، الفن المعماري، هندسة الطرق، وكل ما تبقى من علوم وفي جميع المجالات، أصبح ما لدى غيرهم من ثروات ملكا مشاعا، مشاعا لهم فقط طبعا، وهنا أعني شعوبهم قبل شعوب غيرهم، فلقد انسلخت الروح عن العمل، وحين تنسلخ الروح عن العمل تصبح من دون أي هدف إنساني وتضيع البوصلة، أو لنقل توجه إلى جهة واحدة فقط، الربح ولو على حساب قوت وعيش ودماء الغير، تريدون مثالا؟ حسنا، ماذا يعني لهم أن يكون أكبر صادراتهم وأقوى مصانعهم هي التي تختص بالأسلحة بكل أنواعها، يعني أن الحروب والمنازعات يجب أن تظل مشتعلة، ولا ننسى الفوائد الأخرى التي تتمثل في دخول شركاتهم الكبرى بعد الهدم كي تعمر كل ما تهدم، وطبعا على حساب الشعوب المنكوبة والتي ستدفع من خلال ما تبقى من ثرواتها، أو للرحمة يمكن أن تستدين من البنوك الدولية وتبقى تحت السيطرة، والآن لنعد لمعيارنا الأول، هل كل ما ذكر يدل على حضارة أم همجية؟ نعم لديهم ثقافة ولكن كما أنه ليس كل مثقف متحضر، ليست كل ثقافة حضارة.