فور انتهاء انتخابات الكونجرس الأميركي الأخيرة ظهرت وجهتا نظر مختلفتان حول التأثير المتوقع للانتصارات التي حققها الجمهوريون – لاسيما جناحهم اليميني – على سياسات إدارة الرئيس باراك أوباما خاصة في منطقة الشرق الأوسط. وتتلخص النظرية الأولى في أن الرئيس – وبسبب إقفال درب المبادرات الكبيرة التي وعدت بها الإدارة على صعيد السياسة الداخلية – سيوجه جل اهتمامه للسياسة الخارجية. وحيث إن أوباما سيخوض انتخابات الرئاسة عام 2012 فإن عليه أن يبرز للناخبين إنجازا كبيرا تمكن من تحقيقه. ولأن الإنجازات الكبيرة في السياسة الداخلية باتت بالغة الصعوبة الآن بسبب انتخابات الكونجرس فإن الإنجاز الوحيد الكبير الذي يستحق الذكر هو "تحييد" البرنامج النووي الإيراني وإحلال السلام بين العرب والإسرائيليين.

وهكذا ظهرت مقالات كثيرة تتبنى وجهة النظر هذه تحت عناوين معبرة من قبيل أن على نتنياهو ألا يبتهج لفشل الديموقراطيين في الانتخابات الأخيرة وأن هزيمة حزب أوباما ليست انتصارا لحزب نتنياهو. وراج هذا الرأي في بعض الأوساط التي رأت أنه لا بد من أن يتجه زخم الإدارة الأميركية في المرحلة المقبلة إلى السياسة الخارجية طالما بقي باب السياسة الداخلية مغلقا بالعراقيل الجمهورية التي ظهرت قبل الانتخابات وتعززت بعدها.

أما النظرية الثانية وهي في حقيقة الأمر الأقرب إلى التجربة التاريخية في الحالات المشابهة في واشنطن والأكثر اتساقا مع المنطق فإنها تتلخص في أن تبدل موازين القوى في العاصمة الأميركية لا بد أن ينعكس على سياسات الإدارة بشكل عام. فالقرار الأميركي هو في نهاية المطاف محصلة لتوازنات مركبة وليس قرارا يتخذه الرئيس – أي رئيس – في فراغ.

هامش ضيق

ولأن التبدل كان غير موات للإدراة فلا بد بالتالي من أن يكون أوباما فقد قدرا من هامش حرية الحركة النسبية الذي كان متاحا أمامه حين كان حزبه يسيطر وبأغلبية مريحة على مجلسي الكونجرس. بعبارة أخرى لا بد من أن يضع في اعتباره تزايد الوزن النسبي للمعارضة الجمهورية في الكونجرس.

من جهة أخرى فإن القاعدة العامة المطبقة في الولايات المتحدة وأغلب بلدان العالم هي أن أي سياسة خارجية هي انعكاس بدرجات متفاوتة للسياسة الداخلية. ويصح هذا القول بصفة خاصة في الولايات المتحدة إذ لا يستطيع الرئيس مهما كان راغبا في أن يتبنى سياسة خارجية تؤدي إلى إثارة استياء داخلي واسع لسبب أو آخر. فدروة الانتخابات الأميركية بالغة السرعة إذ تمر السلطة السياسية بامتحان كبير كل عامين فقط. الامتحان الأول هو انتخابات الرئاسة والثاني هو الانتخابات النصفية للمجلس التشريعي. وإذا كان هناك موقف خارجي لا يتسق مع توازنات الداخل فإنه عادة ما يؤدي إلى خسائر سياسية ملموسة في أحد الامتحانين. فضلا عن ذلك فإن الإدارات المتعاقبة كثيرا ما استخدمت السياسة الخارجية لدعم مواقفها الداخلية. أي أن "مربط الفرس" في السياسة الخارجية في هذه الحالة – كما في حالة أغلب بلدان العالم – هو توازنات الداخل.

وبتبني وجهة النظر الأخيرة هذه تبدو الصورة أقل تفاؤلا مما كانت عليه خلال الأشهر الأولى من إدارة الرئيس أوباما. فقد أتى الكونجرس الجديد مثلا بالسيدة ايلينا روس ليتنين لترأس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب. والسيدة روس ليتنين لديها سجل قد يستغرق ذكره صفحات في دعم أكثر السياسات الإسرائيلية تطرفا وهي تجلس بخضوع في مقدمة القائمة التي تعدها إيباك لأصدقاء إسرائيل وتسجل فيها تاريخ تصويت كل عضو على أمر قالت هي – أي المنظمة – إن من الضروري التصويت عليه. و"قائمة الحساب" هذه تحدد لإيباك من هم أكثر أنصار إسرائيل إخلاصا ومن ثم من منهم أكثر استحقاقا للتبرعات المالية لكبار الممولين اليهود الذين ينظرون في أغلب الأحوال إلى إيباك انتظارا لآخر التعليمات.

تعطيل "ستارت"

في واقع الأمر فإن إنجازات الرئيس باراك أوباما في مجال السياسة الخارجية خلال العامين اللذين انقضيا من رئاسته تخضع لفحص وتساؤلات لاسيما لدى الدبلوماسيين الأوروبيين في واشنطن. فقد قال أحدهم في لقاء مع عدد من الصحفيين بعد أن طلب اعتبار النقاش "حوارا خاصا وشخصيا" أي ليس للنشر إن الإنجاز الوحيد المهم للرئيس أوباما هو تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. وقال الدبلوماسي "إن أوباما شخص دمث الأخلاق وصادق وله نوايا طيبة إلا أن كل ذلك لا يحسب بكل أسف في ميزان الإنجازات.

إننا لم نشهد حلا في الشرق الأوسط بل إننا لا نرى تقدما جادا نحو الحل ولم نشهد حلا للمسألة الإيرانية بل إننا لا نرى تقدما جادا نحو الحل. واتفاقية ستارت (الحد من مخزونات السلاح النووي) المقترحة تتعثر والعلاقات مع الصين تمر بأزمة. نحن معجبون بالرجل ولكن البحث عن إنجازات كبيرة حتى الآن لا ينتهي إلى شيء يذكر. هناك فقط نوايا طيبة كثيرة".

وإذا كان ذلك يعني أن أوباما لم يتمكن من تحقيق إنجازات تذكر حين كان الميدان خاليا من "وجع الرأس" الذي يسببه المعارضون فكيف يمكن افتراض أن يحقق إنجازات كبيرة والميدان يغص بهم الآن؟.

إن اتفاقية ستارت أصبحت الآن في علم الغيب فهي تحتاج إلى ثلثي أصوات مجلس الشيوخ لاقرارها. ويعني ذلك أن الأرجح هو ألا تقر أبدا. والتوتر مع الصين حول سعر صرف عملتها وحول حشودها العسكرية في مياهها الجنوبية لن يتراجع إذ يدعو الجمهوريون إلى المزيد من التشدد مع بكين. إلا أن الموقف تجاه قضيتي سلام الشرق الأوسط وإيران قد يشهد بعض التبدل وإن كان ذلك التبدل سيكون على الأغلب هامشيا وليس نحو الوجهة الصحيحة كما يتصورها سكان تلك المنطقة من العالم.

فالمؤكد أن الإدارة – كإدارة – لن تغير مواقفها. إلا أن القدرة على تنفيذ تلك المواقف والسياسات ستتراجع كثيرا. في حالة إيران مثلا فإن الإدارة ستظل على تمسكها برفض الخيار العسكري. بيد أن الخيار الدبلوماسي بات الآن أكثر صعوبة. فحتى يتمكن الرئيس من "تعويم" أي حل دبلوماسي مع إيران في واشنطن فإن عليه أن يقنع الجمهوريين الذين يريدون مواجهة عسكرية.

قص أجنحة

ويرفض الجمهوريون أي تفاهم مع طهران يسمح لهم بمواصلة تخصيب اليورانيوم ولو إلى مستوى 3,5% الذي يفعلونه منذ بعض الوقت. فيما كانت الإدارة قد بدأت تميل إلى السماح لإيران بذلك مقابل التعهد بعدم زيادة نسبة التخصيب عن مستوى العشرين بالمئة وإخضاع المنشآت النووية بالكامل لمراقبة الوكالة الدولية وتبني شفافية كاملة. ويصر الجمهوريون على أنه لا اتفاق مع إيران إلا إذا فككت حزب الله وأنهت نفوذها في العراق وفتحت أسواقها وألغت بعض خصائص نظامها الداخلي وأشياء أخرى كثيرة في قائمة ليست واقعية بحال من الأحوال. وهذه القائمة تعني أن احتمالات الحل الدبلوماسي مع إيران قد تراجعت إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن احتمالات الحرب قد تقدمت.

فقد راجت في واشنطن آراء تقول إن ضرب إيران قد يكون مفيدا لإخراج الاقتصاد الأميركي من أزمته وهي آراء جاءت من كتاب وسطيين لم يعرف عنهم دعمهم للمغامرات العسكرية للرئيس جورج بوش مثلا. فضلا عن ذلك فإن هناك دعوات جمهورية قوية مثل تلك التي رددها زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ جون بوينر بضرورة "قص أجنحة" إيران – باستخدام تعبير مهذب إذ إنه استخدم تعبيرا غير صالح للنشر – بضرب كل مؤسساتها العسكرية.

ويدعو الجمهوريون إلى حشد القوات والتظاهر بالاقتراب من استخدام القوة عن طريق توفير عواملها بصورة جادة حول إيران. وسبب حذرهم في تلك الدعوة التي لا تصل إلى حد المصارحة بضرورة استخدام القوة هو أن الشعب الأميركي بأغلبية كاسحة لا يريد حربا جديدة. ولكن حشد القوة اللازمة لضرب إيران هو الخطوة الأولى نحو ضربها. فسرعان ما سيصبح خيار استخدام تلك القوة جذابا طالما أنه أصبح عمليا.

وإذا كان الحد الأقصى المتوقع في حالة إيران هو التلويح باستخدام القوة بصورة أكثر وضوحا والحد الأدنى هو فشل أي توجه نحو الحل الدبلوماسي فإن ذلك سيترك الرئيس أوباما بلا إنجاز حقيقي. وتبرز المشكلة هنا في أن بوسع أوباما أن يتعايش مع أي جمود من هذا النوع في الملف الإيراني ولكن ليس بوسع إسرائيل التعايش مع ذلك. فالإسرائيليون قلقون مما يسمى "الساعة النووية" التي تواصل الدق لتقرب طهران من السلاح النووي. وإذا ما نجح الجمهوريون في إقناع الإدارة بأن حشد عناصر القوة حول إيران يكفي لإنجاح الجهود الدبلوماسية وإكسابها الأسنان المطلوبة فإن بوسع إسرائيل وقتها أن تضرب إيران معولة في ذلك على أن لدى الولايات المتحدة القدرات الجاهزة للتدخل في العمليات لحسمها ولاحتواء ردة الفعل الإيرانية.

وهذا في واقع الحال هو ملخص الخطة الحالية التي بدأ الجمهوريون في الدفع بها إلى طاولة النقاش في واشنطن. أي الاتفاق مع الإدارة علنا على أن الحل الدبلوماسي هو الخيار الأول وعلى استبعاد خيار الحرب. والمطالبة بحشد القوات حول إيران لحمل إيران على الموافقة على المقترحات الدبلوماسية الأميركية والدولية. وفي حالة الانتهاء من حشد القوات فإن بإمكان إسرائيل أن تقوم بالمهمة طالما كان المسرح مليئا بالقطع البحرية الأميركية.

الفرصة الضائعة

في حالة الملف الفلسطيني فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي يعي تماما ما تعنيه انتخابات الكونجرس. فقد تلقت المنظمات اليهودية المتطرفة نبأ النجاحات الكبيرة التي حققها الجمهوريون بغبطة كان من الصعب إخفاؤها وبحفلات تناثرت أخبارها في واشنطن. ولم يكن من قبيل المصادفة أن قررت الحكومة الإسرائيلية توسعة الاستيطان في القدس الشرقية عقب انتهاء انتخابات الكونجرس مباشرة.

ولا شك هناك في أن الرئيس أوباما يرغب بقوة وبصدق في التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. إلا أن قدرته على الضغط على إسرائيل باتت الآن أقل مما كانت عليه في العامين الأولين من حكمه. ويقال في واشنطن إن السياسة الخارجية هي من اختصاص الرئيس وليست من اختصاص الكونجرس وهذا صحيح بالطبع. إلا أن ما يحدث عادة هو أن أنصار إسرائيل في الكونجرس يتبعون سياسة المقايضة في تعاملهم حول القضايا التي تعني إسرائيل مع البيت الأبيض. فإن كان البيت الأبيض يريد بقوة إقرار أمر يتعلق بشأن داخلي مهم أو بأي شأن آخر فإن أنصار إسرائيل يعارضون حتى تتنازل الإدارة عن أمر آخر يتعلق بإسرائيل. وليس من الملائم هنا القول بأن حل القضية الفلسطينية يدخل في صلب المصلحة الوطنية الأميركية. إذ إن ذلك صحيح دون شك. ولكن متى كان أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة يعطون الأولوية للمصلحة الوطنية الأميركية. إن أحدا لم يشهد سابقة من هذا النوع خلال الستين عاما الأخيرة.

ستواصل الإدارة إذن وبصدق وحيوية تحركها لحل القضية الفلسطينية وإحلال السلام. إلا أن هذا التحرك يمضي الآن في درب أضيق مما كان عليه في السابق. هذه هي خلاصة الرؤية التي يتبناها أكثر الأميركيين صلة بقضية الشرق الأوسط وأكثرهم رصانة وميلا إلى الموضوعية.

وخلاصة الأمر أن الفترة المقبلة قد لا تشهد تطورات جذرية مفاجئة إلا إذا حدثت أمور جذرية مفاجئة. من تلك الأمور مثلا وكما قال أحد المحللين الإسرائيليين أن يرى الرئيس أوباما أنه لن ينجح في انتخابات 2012 ويقرر أن يجازف باتخاذ خطوة كبيرة تجاه الشرق الأوسط كأن يعلن موقفا رسميا أميركيا يتبنى حلا معينا ويرسم الخرائط والحدود. وكان أوباما قد ضيع فرصة فعل ذلك حين كان الدرب فسيحا. ولكن لا يوجد كثيرون في واشنطن يتفقون مع وجهة نظر المحلل الإسرائيلي المشار إليها.

ومن تلك الأمور الجذرية المفاجئة أيضا أن يرضخ الرئيس أوباما للمنطق القائل بأن من الضروري "إسناد" العمل الدبلوماسي مع إيران بحشد قوات كافية حولها. وساعتها ستتولى إسرائيل تقديم الأمر الجذري المفاجئ المقبل لتغير بذلك أوضاعا كثيرة في المنطقة.

إن العامين المقبلين من فترة رئاسة أوباما بوجود كونجرس من هذا النوع قد يكونا تكرارا مملا لما حدث. إلا أن مرور أيامهما يعني أيضا أن "الساعة النووية تدق" وأن إسرائيل قد تفعل شيئا. وساعتها سيتحول هامش حركة الرئيس أوباما إلى هامش أكثر ضيقا مما هو عليه الآن.